البائع الضلالى!
تاريخ مصر الحديث هو تاريخ من محاولات النهضة والتراجع تحت ضغط الظروف.. تحدثنا جميعًا عن ضغوط الخارج منذ ١٨٤٠ وهى حقيقة واقعة لكننا لم نتحدث أبدًا عن عيوبنا.. فكرنا دائمًا أن الحكومات تتحمل الفشل ولم نفكر أبدًا فى المواطن وكأنه مبرأ عن الفشل.. فى ١٩٠٣ ترجم فتحى زغلول باشا كتاب «سر تقدم الإنجليز»، كان المؤلف مفكرًا فرنسيًا هامًا تساءل عن سر تقدم إنجلترا عن فرنسا.. وكانت المفارقة المؤلمة أن فتحى زغلول رأى أن عيوب مصر فى ذلك الوقت تشبه عيوب فرنسا! فترجم الكتاب.. كان محور الكتاب أن الإنجليز اهتموا بالعلوم التطبيقية فتقدموا صناعيًا وعسكريًا وأن الفرنسيين غرقوا فى الشعر والفن والجمال فلم يترجموا حضارتهم لمنتجات يمكن بيعها وبقوة على الأرض.. استجاب الفرنسيون لدعوة صاحب الكتاب فورًا، وتم تأسيس سلسلة مدارس للعلوم التطبيقية وتبرع الأثرياء لهذا الغرض وحاولوا تدارك ما فاتهم والاستجابة لصيحة التحذير.. من ١٩٠٣ لـ٢٠٢٣ أظن أن حال المصريين تدهور كثيرًا جدًا وأن عيوبنا أصبحت أخطر وأخطر.. إننا ما زلنا نحكم على الأمور بالعاطفة لا بالعقل، ونظن أن الرزق على الله فلا نعمل ونظن أن الآخرة خير وأبقى فنقضى سنواتنا على المقهى فى انتظار الموت، ونحن نحب المظاهرات أكثر مما نحب العمل، ونقدر من يملكون مواهب الخطابة أكثر ممن يملكون مواهب العلم والعمل، ونجومنا هم الدعاة والإعلاميون والفنانون وكلهم باعة كلام فى نهاية المطاف.. إننا نقدر السياسى الحنجورى أكثر من المخترع، ونقدر مدّعى المعارضة أكثر من صاحب المشروع، ونتكلم أكثر مما نفعل، ونستهلك أكثر مما نصنع، وننفق أكثر مما ندخر، وننجب أكثر مما نستطيع.. وبالتالى فالنهضة أمر صعب.. إن لم يكن مستحيلًا، والحفاظ على ما نحن فيه بطولة حتى وإن أنكر بعضنا ذلك.. لنأخذ مثلًا نقطة واحدة هى غياب الاستثمارات الأجنبية عن مصر بالدرجة الكافية لإحداث فارق أو نهضة اقتصادية.. كل التقارير الدولية منذ عشرات السنوات تقول إن السبب هو الفساد.. على عكس ما نظن جميعًا فالفساد ليس حكوميًا فقط.. الفساد ليس وجود موظف «يفتح الدرج» ليوافق على المشروع.. بالنسبة للمستثمر فإن وجود أكثر من سعر للسلعة فساد.. وإخفاء التاجر الذى يتعامل معه البضاعة حتى يرفع سعرها فساد.. وتباطؤ الموزع فى سداد ثمن البضائع التى يحصل عليها من المصنع والتهرب من ذلك فساد.. فى ٢٠١٢ زارنى رجل صناعة سورى تربطنى به علاقة اجتماعية.. حاولت إقناعه بأن ينقل نشاطه لمصر.. قال إن أصدقاءه من أصحاب المصانع تعرضوا لخسارة لأنهم اعتادوا على التعامل فى السوق دون ورق رسمى وفق نظام يطلقون عليه «بالأمانة» أى بكلمة الشرف.. وهذا أساس أى تعامل تجارى.. منح أصحاب المصانع بضائعهم لموزعين لا يعرفونهم لتوزيعها اعتمادًا على نظام «الأمانة» والباقى نعرفه جميعًا.. منذ أسبوع احتجت لشراء قطعة غيار أدوات صحية.. دخلت معرضًا طلب منى مئتى جنيه ثمنًا للقطعة.. شككت فى الأمر.. فعبرت الطريق واشتريتها بثمانين جنيهًا فقط! وحين عدت للبائع اللص أعاتبه قال لى ببرود: اشترى منهم.. الفكرة أنه بائع لص يعتمد على قلة خبرة المشترى أو عدم وجود رقابة لجمعيات حماية المستهلك، والأهم أنه عديم الأخلاق يعتبر أن المغالاة فى السعر أمر ليس محرمًا، ولست فى حاجة لأن أقول إن اسم معرض هذا اللص هو «الحمد» وإن علامة الصلاة للأسف تحتل نصف جبهته.. انتشار الغش والتلاعب والبيع بأكثر من سعر واحتكار السلع وخداع المشترى وإخفاء بلد المنشأ للسلعة كلها من مظاهر الفساد الاقتصادى قبل الأخلاقى، وكلها تمنع التقدم الاقتصادى ومجىء الاستثمار.. من مظاهر الجهل الدينى والاقتصادى لدينا أننا لا نعلم أن تقدم الاقتصاد فى الغرب كان رهينًا بفهم التدين فهمًا جديدًا.. ظهور المذهب البروتستانتى أقنع مئات الملايين بأنهم موجودون فى الأرض لإعمارها.. وأن العمل هو التكفير الوحيد عن خطيئة أبينا آدم، وأن الادخار والتوفير والتعامل مع الطبيعة بحكمة هو أساس التدين.. إن فهمنا ديننا للأسف مختلف.. وقد ظهرت محاولات لقراءة الدين الإسلامى قراءة شبيهة لكن تم ابتذالها وتسليعها على يد الدعاة الجدد وتحول بعضهم لخدم لرجال الأعمال يبررون لهم الغش بدلًا من أن يرشدوهم للطريق القويم.. لقد كان نموذج المواطن المصرى فى الثلاثينيات هو المصرى أفندى الرجل الطيب والمتعلم.. وأصبح النموذج فى التسعينيات هو فلاح كفر الهنادوة الساذج والذكى فى نفس الوقت.. وأخشى أن يصبح النموذج الغالب فى قادم الأيام هو «عم سامح الضلالى» الذى أبدع صناع مسلسل «بـ١٠٠ وش» فى تقديمه.. وكانت الكوميديا تنفجر من اتساقه مع نفسه واعترافه بأنه «ضلالى».. بالفعل.. تمامًا مثل البائع الذى لم ينكر أنه حاول أن يبيع السلعة بثلاثة أضعاف سعرها الحقيقى... انتبهوا أيها السادة ولنقاوم الغش والفساد والسرقة لأنها هى ما تعوقنا عن التقدم وليس الأداء الحكومى فقط.