روسيا- إفريقيا والعالم الجديد
القمة الروسية الإفريقية الثانية واحدة من جولات تشكيل عالم جديد.. هذا العالم يتشكل منذ عدة سنوات والآلام التى نعانيها هى آلام الولادة.. بدأ جيلى علاقته بالحياة العامة فى بداية التسعينيات وكان الجميع يتحدث عن عالم ذى قطب وحيد.. بعد أربعة عقود من الحرب الباردة أرهق الاتحاد السوفيتى فى صراعه مع الولايات المتحدة الأمريكية.. كانت هناك حروب ومؤامرات وخيانات وجواسيس وإخفاقات.. ظهر الرئيس جورباتشوف ليفكك إمبراطورية عملاقة تحت ستار سياسة أطلق عليها «الجلاسنوست» أو المكاشفة! بيعت أصول وأسلحة نووية وفككت جيوش وسقطت أنظمة فى طرفة عين.. كان من آثار غياب الاتحاد السوفيتى المباشرة مجىء القوات الأمريكية للمنطقة وضرب الجيش العراقى عقب غزو الكويت واستنزاف ثروات العرب بطرق مختلفة وتصاعد التطرف ردًا على وجود الجيوش الأمريكية فى بلاد العرب.. جرت فى النهر مياه كثيرة، وتم غزو العراق وأفغانستان بالجيوش الأمريكية، ثم انفجر تسونامى العرب المسمى بالربيع العربى.. تفتتت أوطان وسالت دماء وتشرد لاجئون وظهرت تنظيمات الإرهاب كما لم تظهر من قبل.. ومع كل ذلك كان الجميع يتأكد أن هناك شيئًا خاطئًا فيما سمى بالنظام العالمى الجديد.. مع الوقت استعادت روسيا عافيتها كدولة كبرى وتزامن ذلك مع صعود اقتصادى للصين كعملاق عالمى كبير.. تزامن هذا الصعود مع ميلاد ثورة ٣٠ يونيو كامتداد تاريخى لميراث دولة يوليو ١٩٥٢.. أصبح هناك شبه يقين أن سياسات عدم الانحياز والعلاقات المتكافئة مع الأقطاب الدولية هى السياسات التى كفلت لمصر الحصول على أكبر مكاسب ممكنة.. مع الوقت تخلص الوعى الجمعى المصرى من دعايات مكثفة بدأت منذ السبعينيات ضد الاتحاد السوفيتى كقوة عظمى وضد ميراث عدم الانحياز عمومًا.. كانت الدعايات جزءًا من تحول إقليمى ومحلى جرى فى مصر واستُخدم فيه الإخوان المسلمون لتشويه كل ما جرى فى الستينيات.. وهو كثير وعظيم رغم الأخطاء.. اتضح فيما بعد أن كل هذه الجهود كانت برعاية من دول إقليمية بالتعاون مع أمريكا، وأن استخدام الدين كان جزءًا أساسيًا من المخطط.. وصل الأمر إلى مداه مع جمع التبرعات لـ«المجاهدين الأفغان» فى المساجد والجامعات المصرية اتساقًا مع سياسة التحالف مع قطب واحد هو القطب الأمريكى وانتظار الفوائد من وراء ذلك.. مع تولى الرئيس السيسى نظرت مصر للمشهد الدولى نظرة مختلفة.. ساعد على ذلك علاقة صداقة ربطته بالرئيس الروسى بوتن ووعى تاريخى بأن هناك مشهدًا جديدًا يتشكل.. شاركت مصر فى قمتين روسيتين إفريقيتين آخرهما فى الأسبوع الماضى فى سان بطرسبرج.. تم تكريم رموز التحرر الإفريقى، ومن بينهم اسم جمال عبدالناصر الذى كان أبوحركات التحرر وراعيها الرسمى.. تعهدت روسيا بتوفير الحبوب لست دول إفريقية وبتسهيلات تجارية لبقية الدول الإفريقية.. فى الكواليس كانت هناك تفاصيل عن تعاون فى مجالات استراتيجية وتدعيم لقدرة الدول الوطنية الإفريقية.. بالنسبة لمصر فإن المنطقة الصناعية الروسية فى قناة السويس ستكون الجواد الرابح فى قادم الأعوام وتجاورها المنطقة الصناعية الصينية.. وبحسب المسئولين الروس فإن المفاعل النووى المصرى فى الضبعة سيشهد خطوة كبيرة يتم الإعلان عنها فى نوفمبر المقبل، وكما هو معروف فالمفاعل له أغراض سلمية على رأسها توليد الكهرباء من الطاقة الذرية.. بين البلدين تعاون كبير فى أحد خطوط القطار الكهربائى السريع، وثقة سياسية كبيرة حول تقدير الأمور فى العالم والشرق الأوسط.. القمة الروسية الإفريقية وخطواتها هى أحد أبرز أدلة الدور الجديد لروسيا فى النظام العالمى الجديد.. فى حين تراهن الصين وربما الهند على كسب المعركة مع أمريكا بالنقاط الاقتصادية فإن بوتين كلاعب تايكوندو محترف يفضل توجيه ضربات محددة لمناطق التوازن فى الخصم دون اشتباك كامل.. لا أحد يمكنه التنبؤ بنتيجة الحرب الأوكرانية حتى الآن.. لكن الإدارة الأمريكية تعانى من خرف الشيخوخة بشكل واضح.. من ضمن التنبؤات لا الأمنيات أن يعود الجمهوريون إلى البيت الأبيض احتجاجًا على سوء أداء الإدارة الأمريكية الحالية لا لشىء آخر.. جرّت هذه الإدارة العالم لحرب عالمية ثالثة دفع ثمنها الأوروبيون والأفارقة أكثر من أى أحد آخر.. بالنسبة لنا فى مصر فإن مكاسبنا تزيد كلما ظهر أكثر من لاعب على المسرح الدولى، وفى هذه المرة فإن مكاسبنا أكيدة وكبيرة.. ماذا نفعل إذن؟ ليس علينا سوى أن نصبر ونتجاوز الأزمة وبعدها سيأتى النصر الأكيد.