من أوكرانيا للنيجر.. الدنيا بتتمرجح
أشفق كثيرًا على الرجل العجوز ذى اللحية البيضاء الذى يجلس فى سردابه يكتب التاريخ.. أشفق على ذلك الرجل الذى يتدثر بالثلج مدعيًا الحياد عسى أن تجد الأجيال القادمة فى أوراقه بعض الصدق.. أرقب حيرته واندهاشه وفوران عروقه ونفورها مما يراه ونراه معه فى ذات اللحظة..
ما يجرى على سطح هذه المستديرة الآن فوق الاحتمال وفوق أى قدرة على الفهم والتفسير.. هو الجنون بعينه لا شك.. ولا شك عندى فى أن ذلك الرجل قد ألقى أقلامه جانبًا وسقطت محبرته بأحبارها فى حجره وربما طرطشت الأرض من حوله بالأحمر القانى أو بالأزرق الداكن.. هى الشبورة تتلاعب بعينيه حتى إنه لا يرى تحت قدميه.. أظنه الآن مثل كثيرين فى ذلك العالم يخبطون رءوسهم فى شاشة التلفاز لا يصدقون ما يجرى ويسألون فى صرع... هل توقف التاريخ أم أنه يتدحرج إلى أسفل سافلين؟
لا أفهم تلك المفردات التى يستخدمها العاملون فى السياسة الخارجية.. ولا أستسيغ تلك الكلمات الباردة الجافة والتى يسمونها بالدبلوماسية.. لا روح فيها.. أحسها حروفًا ميتة مثل الماء البايت فى زير مهجور منذ سنوات.. لا طعم له ولا ريحة.. لذلك لا أستوعب ما يجرى حاليًا فى النيجر ومن قبله فى السودان.. ولا ما يحدث منذ شهور فى أوكرانيا أيضًا.. كل ما يشغلنى فى الأمر أولئك الأطفال الذين يتسابقون بعيون مذعورة هربًا إلى تلك الحدود القاسية عطشًا وطلبًا للنجاة أو للجوء لبيوت بعيدة لا يعرفونها.. تقهرنى لوعة الأمهات من كل الأجناس وأجدنى مذعورًا مثلهم أرتجف من بعيد فيما تتحجر دمعة مالحة فى المقلتين.. ما الذى يحدث؟.. كيف تحول الناس الذين يزعمون أنهم يكتبون الحضارة الجديدة فى عالم جديد إلى عصابة من المشوهين تطارد البراءة وتقتل السكينة فى الشرق والغرب معًا؟
عندما كنت طفلًا يتصفح كتاب التاريخ لم أكن أفهم ماذا يعنى الاستعمار؟.. لكننى كنت أستريح لكلمات العندليب وهو يغنى.. يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالى.. أو عندما يكتب جاهين.. ضربة كانت من معلم خلت الاستعمار يبلم.. فى هذه الأغنيات كنت أرى الاستعمار رجلًا غريبًا كهلًا أشعث الرأس أتمنى لو جززت عنقه بالبلطة التى نقطع بها كرانيف النخل وسباط البلح.. لكننى لم أتخيل أن تتوه تلك السحنة وتذوب حتى تصير جزءًا من كل الذين يعيشون من حولنا.. هل يمكن لأهل الدبلوماسية إخبارنا ماذا يعنى الاستعمار الآن؟
منذ عشر سنوات وأثناء ما عرف بالربيع العربى ظهر مصطلح الاحتلال المدنى.. أعجبتنى المفردة.. لكنها أوجعتنى أيضًا.. وسألت نفسى وقتها هل تذهب كل تلك الدماء وكل هؤلاء الشهداء الذين فقدوا أرواحهم من أجل الاستقلال هدرًا؟
الآن يتحدث أحد المحسوبين على ما يسمونها بميليشيا «فاجنر» عن استقلال النيجر... يتحدث الرجل ببراءة شديدة عن ألف مقاتل روسى يساعدون أهل النيجر من المسلمين للتخلص من الاحتلال الفرنسى.. تمر الكلمات وكأنها حقيقة.. كأن ما يحدث بجد.. ولا أحد فى أطراف العالم يعنيه ما يجرى فى الأسفل الإفريقى من دمار ونهب وسلب.. إفريقيا التعيسة وقعت فريسة لصراعات الكبار.. ربما هى جولة جديدة فى ذلك الصراع الذى بدأ فى أوكرانيا ولم ينته بعد.. ولا أظن أنه سيتوقف.. ربما غدًا أو بعد غدٍ يتحدثون عن الاحتلال الإيطالى فى ليبيا.. أو الفرنسى فى تنزانيا أو الإسبانى فى المغرب.. هوه يعنى حد هيحاسبهم.. إنها سنوات العجب لا شك.. ومن كان يتحدث عن شرق أوسط جديد سعيد فى أمريكا أو غيرها أعتقد أنه يتراجع الآن ويحذف نظرياته القديمة.. الدب الروسى ينتفض.. يضرب ولا يبالى.. فى الشمال والجنوب.. وليس بعيدًا أن يضرب فى العمق الأمريكى قريبًا.. الصين ليست بعيدة ونفوذها فى إفريقيا ليس قليلًا.. إيران تتمدد.. كوريا تتلمظ... اليابان تترقب.. وأوروبا تترنح وتعانى من متاعب الطاقة فى الشتاء وضياع الهيبة والنفوذ فى الصيف.. العالم يتمرجح الآن والكرة التى تتدحرج.. كرة اللهب هذه لا أظنها ستستقر قريبًا.. لذا أعتقد أن الرجل الذى يكتب التاريخ سيتوقف قليلًا.. إلى أن يجد علاجًا لأطرافه المشلولة.. أو ربما يتقدم باستقالته.. ليحذف التاريخ هذه السنوات العجيبة من صفحاته.. ربما.. لأنه لا شىء يمكن توقعه الآن.