الجزيرة الغامضة
تقع جزيرة «تنيس» بين مدينتى بورسعيد ودمياط، وأرضها لا تزيد على كيلومتر مربع. طارت شهرتها وعرفها الكثير من أهل مصر بدءًا من العام ٣٧٧ هجرية فى عصر العزيز بالله «الخليفة الثانى من خلفاء الدولة الفاطمية»، فى وقت كانت مصر بالنسبة لكل مواطن لا تزيد على المدينة أو القرية، وأحيانًا الحى الذى يسكن فيه. فخلال هذا العام شهدت جزيرة «تنيس» ثلاثة حوادث جعلتها محل اهتمام المصريين، خصوصًا داخل المدينة الجديدة التى أنشأها الفاطميون بعد سيطرتهم على مصر: «قاهرة المعز». عام ٣٧٧ شهدت الجزيرة واقعة عجيبة أدهشت الأهالى الذين يعيشون فيها، ووصل صدى دهشتها إلى القاهرة، حتى بلغ قصر الخليفة نفسه. يحكى «ابن إياس» تفاصيل الواقعة فى «بدائع الزهور» قائلًا: «فى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ولدت امرأة بمدينة تنيس جارية لها رأسان ووجهان فى عنق واحد، وكان أحد الوجهين أبيض اللون، والآخر أسمر اللون، وفيه سهولة، وكل وجه منهما كامل الخلقة، فكانت أم المولودة ترضع كل وجه منهما على انفراد».
قد يسأل سائل: وما وجه العجب فى ذلك؟ نحن أمام حالة «توأم ملتصق» ليس أكثر، لكن عليك أن تتنبه إلى أن أهل هذا الزمان «قبل ما يقرب من ١١ قرنًا من الزمان» لم يكن لديهم أى معرفة بحدوتة التوأم الملتصق، وبالتالى اعتبروا ما حدث عجيبة من الأعاجيب، كان زمنًا مختلفًا توصف فيه المولودة الأنثى بـ«الجارية»، وكأن المرأة جارية بالفطرة، أو كانت تلك فكرة الناس عنها حينذاك. المهم أن المولودة العجيبة أبهرت الناس جميعًا، فتناقلوا أخبارها كحدث عجيب طريف لم يشهدوا مثيلًا له، ووصل صدى الخبر إلى القاهرة حتى بلغ قصر الخلافة، فبعث العزيز بالله من يُحضرها إليه ليراها بنفسه، وسار الركب بها من «تنيس» متنقلًا بين القرى حتى وصل القاهرة، وسط فضول كل من صادفوه على الطريق ورغبتهم العارمة فى رؤية هذه الأعجوبة. شاهدها «العزيز» وأمر لأمها بمبلغ من المال يساعدها على رعاية ابنتها، ثم عادت مرة ثانية إلى «تنيس».
واقعة ثانية ارتبطت بجزيرة «تنيس» حكى تفاصيلها أيضًا «ابن إياس» وهى تتعلق بسمكة صادها الأهالى، يبلغ طولها نحو ٢٨ ذراعًا، وعرضها ١٥ ذراعًا، وتبلغ فتحة فمها ٢٩ شبرًا، وكان لها يدان، طول كل يد ٣ أذرع، ولها عينان كعينى البقر، ولسان كلسان الثور، وكانت ملساء. أمر والى تنيس الأهالى بشقها وحشوها بالملح، فكان الرجال يدخلون فيها بقفاف الملح وهم وقوف بسبب اتساع بطنها، وقد تم حملها إلى القاهرة، ليراها العزيز بالله خليفة مصر، وتعجب من خلقتها.
لم يشر «ابن إياس» من قريب أو من بعيد إلى أنه حاول توثيق خبر السمكة العجيبة، بل اكتفى بالإشارة إلى أنه قرأ خبرها فى كتاب «عجائب العجائب وغرائب الغرائب»، ما يعنى أن خلطة الشائعات كانت حاضرة فيها إلى حد ما، فالمعروف عن المجموع فى كل زمان ومكان أنه كثيرًا ما يبالغ فى نقل هذه الأخبار، وما أكثر ما يضاف إليها!، عندما تنتقل من شخص إلى آخر، وهذه الحالة لا تثير السخرية من الآباء والأجداد، خصوصًا إذا استرجعنا أنواع الأخبار العديدة التى تروج فى العصر الحاضر على مواقع التواصل الاجتماعى، وعمليات التضخيم التى تطرأ على موضوعها، بل بعض هذه الأخبار أحيانًا ما يكون كاذبًا من الأساس، ورغم ذلك ينتشر وتتناقله الألسنة. فى الماضى كان الناس ينظرون إلى هذه الحوادث العجيبة كواقعة التوأم الملتصق، أو السمكة العجيبة، كعلامات منبئة على أن الساعة تقترب والقيامة ستقوم. فكل عجيب ينذر بما هو غامض، ولا يوجد غموض يعدل فى حياة البشر غموض القيامة وساعة قيامها وأحوالها وغير ذلك. وقد تحقق ذلك بالفعل وبدأ جدود الجدود يفكرون عام ٣٨١ أن القيامة ستقوم، وكان مؤشرهم على ذلك التقلبات التى حدثت فى الطبيعة من حولهم، بعد هذه الوقائع العجيبة. فقد أرعدت السماء وأبرقت، وأظلم الجو، وظهر فى السماء أعمدة من نار تلتهب «برق»، فأضاءت منها الدنيا، ثم ضربت الرياح العاصفة أجواء المحروسة، واشتد الغبار، والتهبت حرارة الجو، فشعر الناس باختناق، دفعهم إلى الصراخ بأنها القيامة. بل بدأ البعض يؤكد أن القيامة ستقوم، وأخذ الكثيرون يستعدون لمواجهة المشهد العظيم، ومرت الأيام، وهدأت العواصف، واعتدل الطقس، وتحسنت الأحوال، ولم تقم القيامة.
يتعانق الزمان والمكان معًا حين يرتبط الأمر بالغموض، وقد تعانقا بصورة أو بأخرى فى جزيرة «تنيس» تلك الجزيرة الغامضة التى ارتبط بها العديد من الأحداث العجيبة أيام العصر العباسى، منحتها شهرة كبيرة بين المصريين، واكتسبت شهرة على شهرة حين نهضت بصناعة كسوة الكعبة المشرفة، وظلت الحال بها كذلك، حتى بدأت تختفى فجأة من التاريخ، وتوارت إلى الظل، وبدأ الناس فى هجرانها، وأصبحت أثرًا بعد عين، ولم يبق منها إلا أطلال، تغرى الباحثين فى مجال الآثار بالتنقيب فيها، بحثًا عن اكتشاف عالمها الذى كان، لكنها ما زالت تصر حتى اللحظة على الغموض، وكأن المكان شحيح فى أن يفضى بأسرار الزمان الماضى الذى كان جزءًا من حركته.
الغموض جزء من حياة المصريين.. وهو أيضًا لا يفنى ولا يستحدث من عدم.