ثورة يوليو.. الضرورة والممكن
بالأمس حلت الذكرى الحادية والسبعون لثورة الثالث والعشرين من يوليو.. ذكرى الثورة عادة ما تكون مناسبة لأطراف متعددة كى تصفى حساباتها مع التاريخ ومع الواقع أيضًا.. تنتشر الأكاذيب لتغطى على الحقائق وينتشر «الاستظراف» ليغطى على القراءة المنصفة للتاريخ.. يطلق الإخوان المسلمون أكبر قدر من الأكاذيب والشائعات التى تصل لدرجة العبث التاريخى استكمالًا لدورهم الذى أوكل لهم وكوفئوا عليه بالمليارات من دول معينة.. ويطلق بعض الليبراليين «من منازلهم» النكات عن «على» الذى لم يكن يجب أن يتزوج «إنجى» فى إسقاط على فيلم «رد قلبى» الشهير، والرموز التى حملها الفيلم عن غرام الضابط والأميرة.. وتنطلق أيضًا أصوات تدافع عن الثورة من منظور عاطفى باستخدام ألفاظ تعبر عن المشاعر بأكثر مما تعبر عن حقائق التاريخ.. والحقيقة أن ثورة يوليو قامت لأنها كانت حتمية تاريخية فرضتها تطورات تاريخ مصر.. والحقيقة أنها رغم أى إخفاقات حافظت على وجود الدولة المصرية واستقلالها وفتحت باب الحياة الكريمة لعشرات الملايين من فقراء المصريين.. لفهم ثورة يوليو لا بد من الرجوع لجذرها التاريخى الأول وهو حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ وهو حادث فرضته تطورات الحرب العالمية الثانية.. كان الملك فاروق قد قضى أربع سنوات فى الحكم وعمره يدور حول العشرين وهو عمر يقترب من المراهقة.. كانت عواطف المصريين تتمنى انتصار ألمانيا فى الحرب وفقًا لنظرية- عدو عدوى صديقى- تورط الملك فى التعاطف مع الألمان بأكثر مما يجب لملك، واتهمه البريطانيون بإصدار إشارات ضوئية لغواصات الألمان من قصر رأس التين.. طلب الإنجليز تولى النحاس باشا زعيم الوفد رئاسة الوزراء بدلًا من على ماهر الموالى للألمان.. كان النحاس رمزًا وطنيًا كبيرًا لكن الإنجليز ورطوه بهذه المناورة.. حدثت أزمة وحاصرت الدبابات قصر عابدين وجبن الملك عن ترك الحكم رغم أن عددًا من أفراد عائلته رفضوا الحكم تحت الاحتلال الإنجليزى.. خرج الملك والنحاس خاسرين من حادث فبراير وكسب الإنجليز.. اندفع الملك فى طريق الاغتيالات ليصفى حساباته مع الوفد.. تم اغتيال أمين عثمان وجرت أربع محاولات لاغتيال النحاس.. فقد توازنه النفسى واهتزت صورته فى عيون المصريين.. خسر الوفد صورته كحزب الوطنية المصرية وانصرف عنه المصريون إلى جماعات أكثر تطرفًا مثل مصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية والجماعة الإرهابية.. أحس ضباط الجيش بالإهانة وقدم اللواء محمد نجيب استقالته احتجاجًا على عدم إتاحة الفرصة للجيش للرد على البريطانيين فى ٤ فبراير.. ضرب الإنجليز بخبث قواعد النظام فى مصر والذى كان يقوم على ثنائية «الوفد- الملك» وبينهما الإنجليز.. تداعى حكم فاروق بعد ٤ فبراير لأسباب شخصية وسياسية.. انفصل عن زوجته التى أحبها المصريون.. ثم هربت والدته وأخته التى تزوجت دون رضاه، وكان هذا شرخًا كبيرًا فى صورته لدى عامة المصريين الذين كانوا وما زالوا شعبًا محافظًا من الناحية الاجتماعية.. كان رجلًا منحازًا للطرف الخاسر فى الحرب وكان يراقب العالم الجديد وهو يتشكل ولا يعرف هل يتم الصفح عنه أم يحاسب على انحيازه للطرف الذى خسر؟.. راهن على أمريكا بكل قوته وحاول أن ينخرط فى ترتيبات العالم الجديد لكن صورته لدى المصريين كانت قد احترقت.. بحثًا عن دور جديد خاض حرب ٤٨ دون استعداد حقيقى، واقتنع الجنود والضباط بأنهم يحاربون بأسلحة فاسدة.. اقتنع بأن فرص بقائه فى الحكم قليلة فاندفع يجمع الثروات الحرام.. فى الوثائق الأمريكية والبريطانية عن مصر فى تلك الفترة والتى ترجمها الأستاذ محسن محمد فى «كتاب ثورة يوليو بالوثائق السرية» إدانة كاملة لعهد فاروق وشرح لأسباب سقوطه.. وفق هذه الوثائق فقد كان فاروق وحده يملك ٢٠٪ من أراضى مصر الزراعية.. ورفض كل النصائح بالإصلاح الزراعى أو تقسيم الأرض على صغار الفلاحين أو إجراء أى إصلاحات اجتماعية.. ضربت الفوضى الحياة السياسية وارتفع صوت العنف.. اغتال الإخوان رئيسى وزراء هما أحمد ماهر والنقراشى، وقتلوا القاضى الخازندار، واغتال آخرون أمين عثمان وزير مالية الوفد، وجرت أربع محاولات لاغتيال النحاس.. حاول الوفد الدفاع عن صورته بالتشدد مع إنجلترا دون إجراء حسابات سياسية دقيقة.. تم إلغاء معاهدة ١٩٣٦ وإعلان حرب غير رسمية على قوات بريطانيا فى السويس.. شاركت كل القوى فى الأعمال ضد المعسكرات ورد الإنجليز بعنف ضد أبطال الشرطة المصرية فى ٢٥ يناير ١٩٥٢ أراد الإنجليز إخلاء الإسماعيلية من الشرطة فقاوم الرجال المصريون واستشهد العشرات.. فى اليوم التالى حدث حريق القاهرة بشكل منظم وامتنعت الشرطة عن إطفاء الحرائق ردًا على المذبحة.. قتل مدنيون وأجانب وأحرقت متاجر ونواد ودور سينما.. اتهم الإنجليز اثنين من وزراء الوفد بتمويل الأحداث واتهموا «مصر الفتاة» بتنفيذها.. كانت هناك فوضى كبيرة جدًا تشير إلى أن كل أطراف اللعبة فقدوا قدرتهم وشرعيتهم أيضًا.. فالإنجليز خرجوا منتصرين من الحرب بفضل مساندة أمريكا وعليهم أن يقبلوا دور التابع.. والملك خرج جريح الكرامة لأنه فضّل الاستمرار فى الحكم على كرامته وكرامة مصر، والنحاس باشا فشل فى تحقيق الاستقلال والتنمية خلال ٢٤ عامًا تزعم فيها الوفد.. والوزارات تتغير كل أسبوعين تقريبًا وسط شائعات وحقائق عن فساد الملك وحاشيته.. كان كيان الدولة مهددًا بالزوال وكانت الفوضى تخيم على مصر.. وهذه هى الظروف التى لا بد أن يتدخل فيها الجيش حفاظًا على كيان الدولة المصرية.. حدث هذا فى يوليو ١٩٥٢ كما حدث فى يونيو ٢٠١٣.. إنها ضرورة التاريخ بعيدًا عن مهاترات الفيسبوك ومخابيل الإرهاب والليبراليين من منازلهم.