فتنة عاشور وتميمة الشحات
لا أحد فى هذا العالم يمكنه أن ينكر أن الكرة صارت همًا يوميًا للجماهير على اختلاف توجهاتها وتكوينها الفكرى والإنسانى.. لا فرق فى ذلك بين غنى وفقير.. موظف وفلاح.. شاب وعجوز.. عربى وأعجمى.. الكل استجاب لإغراء هذه المجنونة المدورة وصارت مبارياتها وكواليسها ونجومها وحياتهم بكل تفاصيلها زادًا يتعاطاه من يريد ومن لا يريد كل ساعة.. صارت هوسًا لا نستغنى عنه، لا شك عندى فى ذلك، ولم يعد بمقدورنا السيطرة على حواسنا التى تلهث خلف يومياتها إلا بالانتقاء والاختيار كلما أمكن.. إذ إن عالم هذه المستديرة الساحرة ليس خيرًا كله كما أنه ليس شرًا فى المطلق.
هذا الأسبوع طغت وطفت على سطح اهتماماتنا قصة إمام عاشور، لاعب الأهلى الجديد المنتقل من غريمه التقليدى عبر صفقة جرت فيها كل ألاعيب الدراما.. ورغم أن عاشور الشاب ليس إلا مجرد لاعب كرة.. لكن ما تيسر من قصته للجماهير صار يمثل نمودجًا للحالمين من شبابنا بأفضل النساء وملايين الدولارات والشهرة والنجومية فوق البيعة.. حلم سريع وطازج ومبهر لكنه كارثى فى تداعياته.. ذلك التناول الإعلامى الفج لقصة عاشور لم يبق من موهبة اللاعب شيئًا إذ كرس لفكرة وحيدة.. الغاية تبرر الوسيلة ولا فضل لعربى على عربى إلا بالعمولات والسمسرة والخديعة.. لم يحقق عاشور نصف شهرته باجتهاده فى الملعب.. أو بصبره على قسوة الغربة ومصاعب اللغة ومنافسة الأقران، كما هو الحال فى قصة صلاح مثلًا.. هذه الفتنة الجديدة أخذت كثيرًا من قيمة عاشور كنموذج يمكن تقليده فى أذهان شبابنا.. وأسهم الإعلاميون ورواد السوشيال ميديا فى زراعة هذه الفتنة، ولن نحصد منها خيرًا لا نحن ولا إمام الذى لا يختلف اثنان على موهبته أو على حقه فى اختيار الفريق الذى يلعب له فى عالم احترافى مجنون لا علاقة له بأى منظومة قيم تحتاجها شعوبنا.. فى الوقت ذاته لم ينتبه أحد بسبب كل هذه الدوشة إلى قصة معتبرة للنجاح بطلها لاعب آخر محبوب وناجح اسمه حسين الشحات.. ذلك الشاب الذى توفى والده بعد شهور من ولادته وتركه وإخوته لسيدة مصرية مكافحة من حى شعبى لا تعرف ماذا تفعل فى تلك التركة الثقيلة لأنها مثل أى أم مصرية بطلة قررت أن تواجه الدنيا بحالها لتربى أطفالها.. وفى بحر الحياة الواسع.. مضت.. صدمة ف لطمة ف قطمة كما يقول عمنا سيد حجاب حتى التقت رجلًا طيبًا يعمل مدربًا فى نادٍ بدورى الدرجة الرابعة.. عرض أن يقتسم معها الشيلة.. وتزوجا.. وصار أبًا ثانيًا لحسين الذى صاحبه فى مشاويره إلى الملعب.. ولمح الرجل موهبته.. فدربه واعتنى به.. لكن راتبه لا يسمح بما هو أكثر فراح حسين يعمل فى بنزينة بالبقشيش.. وفى مهن أخرى حتى صار شابًا يطلبه الأهلى لكن مَن توسط لإتمام انتقاله للفريق الكبير تقاعس فاضطر الشحات للسفر للخليج.. مصطحبًا أسرته وزوجته التى قبلته فقيرًا وباعت ذهبها من أجل أن يستمر فى التدريب.. وأن تستمر الحياة.. سنوات قليلة وعاد الشحات للأهلى فى صفقة انتقال بعشرات الملايين وصار تميمة الفرح للجماهير الغفيرة لكنه لم يترك حيه ومنطقته التى يعيش فيها مع أهله وجيرانه.. يبتهج معهم ويشاركهم فرحة أهدافه.. ويقاسمهم اللقمة والأحزان أحيانًا.. هذه القصة لم تجد مَن يحتفى بها فى هوجة عاشور عاشور.. وكأننا لا نريد إلا كل ما هو شاذ مثل قصة شعر ذلك الفتى الذى لا يبحث إلا عن متعته وانتصاره على كل ما هو طيب.
نحن فى حاجة عاجلة إلى معاملة مختلفة مع هذا العالم الذى تفرضه علينا سطوة المستديرة.. فليس كل ما فيها يستحق أن نلهث خلفه وأن نصفق له.