شياطين العمال.. والجمال المنافقة
أحمد بن محمد المدبر، واحد من أقدم الولاة الذين ترأسوا مصر أيام الحكم العباسى. يصفه «ابن إياس» بقوله: «وكان من شياطين العمال»، وكان يطلق على الولاة على مصر أيام العباسيين وصف: «عمال الخراج بمصر»، أى العمال المسئولين عن جمع الضرائب المقررة على أقباط مصر. فمصر فى ذلك الوقت كانت تمثل الدجاجة التى تبيض ذهبًا لدولة الخلافة، ومصدرًا رئيسيًا من مصادر تمويلها بالمال، حتى ولو تم ذلك على حساب الأهالى. وكان الخليفة العباسى إذا ولى أحدًا أمر مصر يشترط عليه المبلغ المالى الذى يلتزم بدفعه بعد أن يجمع الخراج من الأهالى، يضاف إليه الهدايا التى يجلبها معه، خصوصًا من الخيول العربية، والجمال البجاوية «نسبة إلى قبيلة البجا فيما يبدو»، والثياب المطرزة، وعسل النحل المصرى الذى من عسل بنها، وغير ذلك من أصناف لا توجد إلا فى مصر.
يمكننا القول إن جمع مبلغ الخراج والهدايا المطلوب إرسالها من مصر إلى الخليفة العباسى فى كل عام كان يمثل أساس الاحتكاك بين الولاة العباسيين والأهالى من المصريين، فما أكثر ما كان يتعمد الولاة الضغط عليهم من أجل حلب ما فى جيوبهم، والاستيلاء على ما يملكون، حتى يتيسر لهم إرسال المطلوب إلى قصر الخلافة فى بغداد. ويعد «ابن المدبر» نموذجًا للولاة شديدى القسوة الذين تولوا أمر المصريين فى العصر العباسى، فخلافًا لمن سبقوه اتبع سياسة عجيبة فى جمع المال من المصريين، ففرض عليهم بالإضافة إلى الضريبة السنوية «الخراج» ضرائب شهرية «هلالية»، وقرر على أنشطة لم يعهد المصريون من قبل فرض ضرائب عليها، مثل ضريبة الكلأ التى كانت تدفع على العشب الذى ترعاه البهائم، وأطلق عليها «ضريبة المراعى»، وقرر على مصايد الأسماك مالًا، وسماه «المصايد».
الضغوط المستمرة التى مارسها «ابن المدبر» على الأهالى من المصريين أدت إلى أمرين، أولهما تراجع قيمة ما يتم تحصيله من خراج مصر لصالح دولة الخلافة، والثانية انتشار آفة النفاق بين المحتكين ببلاط الوالى بسبب خوفهم الشديد منه.
انحط خراج مصر فى عهد «ابن المدبر» بصورة كبيرة، ولم يزد أواخر عهده على ٨٠٠ ألف دينار، فى حين كان يصل أيام الولاة السابقين له إلى ١٢ مليون دينار، يقول «ابن إياس»: «وهذه أول تلاشى أحوال الديار المصرية.. وآل أمرها إلى الخراب من يومئذ». وكان السبب فى ذلك هو الضغط المستمر الذى مُورس على الأهالى والإرهاق الاقتصادى الذى شعروا به نتيجة الضرائب التى فرضها عليهم الوالى، وتمددها إلى أنشطة اقتصادية لم يسبق دفع ضرائب عليها، مثل الرعى وصيد الأسماك، وكانت النتيجة أن توقف الأهالى عن العمل، وحصروا أنشطتهم فى أضيق الحدود، وبالتالى قلت مدخولات الخراج، وتراجع حجم المبلغ الذى يدفع سنويًا لدولة الخلافة، مما أغضب الجالس على منصة الحكم فى بغداد، فبدأ يرتب للإطاحة بـ«ابن المدبر» وتولية غيره مكانه.
الأمر الثانى يتعلق بالخوف الذى يولد النفاق. كان «ابن المدبر» من الشخصيات التى تحب أن ينافقها من حولها وأن يسمع منها ما يحب أن يسمعه من كلمات، نظير أن يمطرهم بنفحاته وعطاياه. فى عصر «ابن المدبر» ظهر النفاق- لأول مرة فى تاريخ مصر بعد الفتح العربى- كأداة للتكسب وأكل العيش، ومثلت كتيبة الشعراء فى ذلك الوقت، وكان من بينهم مصريون، جماعة المنافقين التى تبحث عما يطرب الوالى من كلمات تلقيها أمامه وتشتهر بين العامة، وتفوز إذا رضى عن نفاقها بأكياس المال. وكان لـ«ابن المدبر» عادة عجيبة، إذا مدحه شاعر ولم يرض عن مدحه، إذ ينادى لغلامه ويقول له: امض به إلى المسجد فلا تفارقه حتى يصلى ١٠٠ ركعة ثم اتركه، وكانت النتيجة أن انصرف عنه الشعراء وتحاشوه، بسبب ما يفرضه على من لا يرضى عن شعره المنافق له.
شاعر مصرى وحيد أفلت من الفريضة التى افترضها «ابن المدبر» على من لا يرضى عن شعره، وفاز بعطاياه، وهو الشاعر المصرى الحسين بن عبدالسلام وكنيته «الجمل الشاعر». وقد دخل ذات مرة على الوالى واستأذنه فى المديح، فقال: قد عرفت الشرط؟ قال نعم، وأنشد أمامه يقول: «وقالوا يقبل المدحات لكن.. جوائزه عليهن الصلاة.. فقلت لهم: وما يغنى عيالى.. صلاتى إنما الشأن الزكاة».. وأعجب «ابن المدبر» بالمنافق المصرى الأصيل وبما لاكه أمامه من شعر وأجزل له العطاء.
لم يكن للخليفة العباسى «المستعين بالله» أن يصبر على تراجع المبلغ المالى الذى يصله من مصر سنويًا بسبب عبثية «ابن المدبر» وسوء إدارته، فما كان منه إلا أن أرسل بعزله وتولية الأمير أحمد بن طولون مكانه، وكان ذلك سنة ٢٥٥ هجرية. وقد قرر «ابن طولون» بمجرد توليه حبس «ابن المدبر» فى أضيق مجلس حتى مات، وكان ذلك عام ٢٧١ هجرية. انتهت حياة الوالى الذى اعتبره «ابن إياس» من «شياطين العمال»، لكن فكره فى الضغط على الأهالى ومحاصرتهم معيشيًا بقى، ومحاولات تدجينه للنخبة المثقفة «الشعراء» المنافقة له بقيت، بما فى ذلك «الشاعر الجمل» الذى نافق من قبل «ابن المدبر»، فقد نافق من بعده أحمد بن طولون، حين تطايرت النجوم فى السماء شرقًا وغربًا، فتشاءم الأمير، ولما علم الشاعر الجمل بذلك دخل عليه منشدًا: «هذى النجوم الساقطات.. رجوم أعداء الأمير».
جمال النفاق فى مصر لا تفنى ولا تستحدث من عدم.