الرواية والسياسة
يرى الكثير من النقاد أن الأدب والسياسة عالمان منفصلان لا علاقة بينهما، وهذا بالطبع يشمل الرواية، وهم يبنون رؤيتهم هذه على أساس أن الرواية هي عالم خيالي عاطفي يهتم بمشاعر الإنسان، لأن الرواية في مجملها عمل أدبي سردي يعبّر عن وجهة نظر كاتبه، والرواية هي نقل الواقع من المجتمع، أي أنها في كل الأحوال تعبير عن نبض الشارع في فترة زمنية ومكان معين، ويمكن للكاتب أن يطرح رأيه السياسي من خلال حوارات شخوصه فيما بينهم.
تعتبر الرواية موقفًا سياسيًا يعبّر عن الموقف الأيديولوجي للكاتب، حتى ولو لم يقصد، فالرواية هي التعبير عما يدور بخيال كل كاتب يمكن أن يكتب رواية، أو حتى قصة قصيرة، أو قصيدة شعر.
ويمكن لأي ناقد أن يستنبط الموقف السياسي ويُسقطه على الواقع، المهم أن يتابع النقد الإنتاج الوفير للروايات في الوقت الحاضر ويمكن استنباط كل وجهات النظر المطروحة، والدليل على ذلك رواية "رباعية الإسكندرية" للورانس داريل، ومعظم روايات الكتّاب الروس، دوستويفسكي وتولستوي، وروايات نجيب محفوظ "الكرنك" وباقي رواياته من أول الثلاثية حتى "اللص والكلاب" و"يوم قتل الزعيم"، و"الزيني بركات" لجمال الغيطاني، و"نجمة أغسطس" و"اللجنة" و"وردة" لصنع الله إبراهيم، والكثير من رواياته تعتبر مواقف سياسية تعبر بوضوح خلال روايته عن موقفه السياسي، وروايتنا "خريف الجنرال"، و"يوميات ضابط في الأرياف" و"طه الذي رأي" و"مرحلة للنسيان". كلها تعبر عن مواقف سياسية لم نصرح بها، ولكنها جاءت تلقائية من خلال التعبير الفني.
وتعتبر رواية "يوم قتل الزعيم"، لنجيب محفوظ، النموذج الأول للرواية السياسية، حيث نرى أن هذا العمل تحديداً ينتقد الوقائع والشخصيات والحوارات التي تتم بينهم، حيث يتم اتهام عصر السادات كله، منذ الفقرة الأولى في الرواية. كل سطر من سطور الرواية يلقي بالعديد من التهم على هذا العصر، باعتباره عصر الانفتاح الاقتصادي العشوائي، والذي لم تكن أبعاده الاقتصادية قد ظهرت بعد.
تطرح العلاقة بين الرواية والسياسة عدداً من الأسئلة البديهية الأخرى؛ إذا سلمنا بأن الرواية هي عالم الواقع المتخيل، فكم هي نسبة الواقع وكم هي نسبة المتخيل في الرواية التي تجعل السياسة موضوعاً لها؟ وهل اعتماد الرواية على المتخيل يقوض من مصداقية العمل الروائي في التعبير عن واقع سياسي معين وعن معضلات سياسية، وفي القدرة على تفكيك هذا الواقع السياسي ونقده؟ أم أن هذا المتخيل هو الذي يمنح المبدع إمكانية هذا النقد وهذا التفكيك ويمنحه إمكانية استكشاف عوالم لا يصل آخرون إلى سبر أغوارها؟ أي تأثير تتركه المواضيع والأحداث السياسية في العمل الروائي؟ أو ماذا يحدث للعمل الروائي بفعل ضغوط هذه المواضيع السياسية؟ وإذا كان حضور الأحداث السياسية والأفكار والمذاهب والأيديولوجيات في الرواية قد يبرر الحديث عن صنف قائم بذاته يسمى عادة بالرواية السياسية، فكيف نصنف إذن الروايات التي تحضر فيها هذه الأحداث والأفكار بشكل أقل أو لا تحضر فيها بتاتاً؟ هل يمكننا الحديث عن رواية خالية من السياسة؟
بالطبع من الممكن أن تكون الرواية خالية من السياسة، ومن الممكن أيضا أن يكون حزبا سياسيا كاملا، لمن لا حزب له. فالكاتب الذي لا ينتمي لأي حزب يمكن أن يجعل من نفسه حزبا قائما بذاته من خلال كتاباته، والتعبير فيها عن موقفه السياسي، ويمكن له أن يطرح كل أفكاره.
ربما لم يفكر الكاتب في أنه سيكون عضوًا في فريق سياسي، ولكنه في كل الأحوال يعبّر عما يجول في خيال رجل الشارع، وعن احتياجاته وعن رغباته، وعن نقاط الضعف فيه، وهو نفس ما تقوم به الأحزاب. والغريب أن كثيرًا من أحزابنا السياسية لا تهتم بالثقافة، وليست لديها إدارات ثقافية أسوة بالاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكل ما يهم المجتمع، لأنها لا تولى الأدب اهتمامها، باعتبار أن الأديب هو وجهة نظر تتحرك على الأرض، وتنقل بكفاءة نبض الشارع في كل ما يكتب، سواء قصة أو رواية أو قصيدة، أو حتى مسرحية. وبذلك تكون تلك الأحزاب هشة وغير معبّرة عن نبض الشارع، ولكننا في حزب التجمع اليساري أسوة حسنة، فلديه مجلة من أقوى المجلات الثقافية في الوطن العربي يقوم عليها فريق من الصحفيين المميزين، وتستقطب نخبة من الكتاب والشعراء وذوي الفكر الراقي والمحترم. وهو الأمر الذي ينقص الكثير من الأحزاب، وربما يفسر هذا عدم وجود العدد الكافي من أدباء مصر في المجالس النيابية المصرية بغرفتيها النواب والشيوخ.
بالطبع الرواية هى أداة التعبير عن الأيديولوجية الفردية للكاتب، كما هي تعبير عن وجهة نظر الكاتب، حسب تفكيره والنظام السياسي والعقائدي الذي يفكر فيه، ولا يمكن الفصل بين الكاتب وموقفه. وقد تكون الرواية طرحًا لما يتعين أن يكون عليه المجتمع من نواحٍ كثيرة، اقتصادية وسياسية، وهو ما يمكن إسقاطه على الفكر السياسى والعقائدى للكاتب.