لا لمقاولى الهدد فى السياسة المصرية
فى عام ٢٠١٧ كتبت مقالًا غاضبًا بعنوان «مقاولو الهدد فى السياسة المصرية»! كنت أهجو فيه بعض «السياسيين» المصريين ممن يحترفون هدم النظم السياسية لكنهم لا يعرفون أى شىء عن بنائها مرة أخرى.. يظهرون فى أوقات معينة ليرفعوا شعارات تبدو من بعيد منطقية مثل «كفاية» و«حرام» و«خلاص».. و«ما يحكمش»! ثم لا يقولون لنا عن خططهم القادمة لما بعد ما هو قائم وتحطيم ما هو مبنٍ وإيقاف ما هو دائر.. فى مقال آخر قلت إن مشكلة بعض القوى التى تصف نفسها بالقوى المدنية أنها بلا ظهير حقيقى فى الشارع المصرى.. لا تعبر عن قوى اجتماعية حقيقية فى الشارع.. لذلك فهى دائمًا ضعيفة وعرضة للاستخدام لصالح هذا الطرف أو ذاك.. قوامها بضعة أفراد يملكون حسابات على وسائل التواصل ويبحثون عن مصدر قوة يدّعون أنهم يستندون إليه.. بعضهم يوحى لمن حوله بأن علاقته بسفارات الدول الغربية أكثر من قوية وأن ما يكتبه بوحى منها.. بعضهم لديه أوهام أكثر من هذا أو أقل.. لست بصدد تجريح أحد فكل شىء بات معروفًا ومفهومًا لمن يريد أن يفهم.. لكن مسئوليتى أمام الله وأمام نفسى تدفعنى لأن أُسمى الأشياء بمسمياتها وأقول إن بعض محترفى السياسة لدينا هم من مقاولى الهدد وليسوا من مقاولى البناء.. وإن دوافعهم فى كل مرة لا تعدو دوافع انتهازية وشخصية بحتة.. فضلًا عن البحث عن دور ما والخضوع لأوهام التعبير عن قوى ما تتحرك ضد مصر فى الظلام وتعتبر مقاولى الهدد رُسلها للمصريين.. هذه الانتهازية أوقعت مصر كلها فى دوامة كبيرة منذ يناير ٢٠١١ وجرفت الدولة المصرية لطريق الانهيار لولا خروج الناس فى ٣٠ يونيو وتصدى القوات المسلحة لمهمة الحفاظ على الدولة المصرية.. أقول مخلصًا إن طريق الإصلاح مع البناء هو الطريق الوحيد الذى يجب أن نسير فيه.. أما طريق الهدم تحت شعار كاذب مثل «كفاية» فهو طريق الخراب والخيانة والانتهازية السياسية.. لا يعنى هذا أننا فى وضع مثالى على المستوى الاقتصادى.. بالعكس.. هناك أزمة كبيرة فى مصادر الدخل الأجنبى وفى ارتفاع الأسعار وفى إجمالى الناتج القومى الذى نحتاج لمضاعفته عدة مرات.. لكن أى عاقل يدرك أن أى قفزة نحو المجهول ستؤدى إلى تفاقم الأزمة عدة مرات.. وأى عاقل يدرك أن مصر الآن مثل مريض فى غرفة الجراحة يجرى عمليات فى القلب والكلى والكبد والمخ.. وأنه من العبث أن نطلب من الجراح والفريق المعاون له أن يترك غرفة العمليات قبل أن ينهى ما بدأ.. إن هذا لا يعنى سوى موت المريض للأسف الشديد.. إننى أنظر للوضع المصرى فى إطاره التاريخى فأجد أن معاناتنا الاقتصادية هى بنت الظرف الحضارى المصرى أكثر مما هى بنت فترة معينة من عمر مصر.. فقد كان المصريون فقراء عبر عصور مختلفة خضعوا فيها للاحتلال والاستغلال.. وحين أسس محمد على باشا الدولة الحديثة فى مصر دخلنا فى تجارب متعددة للنهضة انتهت كلها إلى الفشل لعوامل داخلية وخارجية.. وكانت معاناة كثير من المصريين اقتصاديًا حقيقة تاريخية فى عصور كثيرة مهما اختلفت نظم الحكم.. فالفلاحون كانوا يشكون الظلم فى عهد الخديو إسماعيل وابنه توفيق.. وفى ١٩٣٥ كتب المفكر سلامة موسى يستنكر أن يكون متوسط دخل المصرى ثمانية جنيهات فقط ويقول إن هذا من أقل متوسطات الدخول فى العالم.. وفى ١٩٥١ قالت السفارة الأمريكية، فى تقاريرها عن مصر، إن فشل حكومة الوفد فى التنمية وسوء توزيع الثروة وانتشار الفقر من الأسباب التى تشجع التغيير فى مصر «راجع كتاب ثورة يوليو بالوثائق السرية للأستاذ محسن محمد»، وفى نفس الكتاب تقول الوثائق البريطانية إن مصر كانت تعتمد على إنجلترا فى إمدادها بالقمح والأقمشة طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، وإن كلًا من الملك ورئيس الوزراء كانا يلحان فى هذه الطلبات عبر السفير البريطانى فى مصر.. أما الثمانون مليون جنيه إسترلينى التى طالبت بها مصر إنجلترا فقد اعتبرها الإنجليز تعويضًا عن خسائر رعاياهم فى حريق القاهرة واعتبروا أنها لم تكن من الأساس.. وقد حاولت مصر النهضة بعد ثورة يوليو بجهد وطنى صادق.. لكن التجربة أسفرت عن لا شىء بسبب الوضع المصرى كله على بعضه وليس فقط بسبب سوء الإدارة.. إن «إمكانياتنا» للنهضة ضعيفة لأسباب حضارية وثقافية معقدة.. فنحن ننجب أكثر مما ننتج، وننشغل بالآخرة أكثر من الدنيا، ونعادى العلم ونعتنق الخرافة.. ويظن بعض رؤساء الأندية لدينا أن الجن يلعب دورًا فى هزيمة فريقه بدلًا من أن يعتقد أن الحل فى التدريب والتخطيط والعمل.. والمأساة أنه يقنع الملايين من جمهور ناديه بهذا!! فأى نهضة هذه التى نبحث عنها وننتظر أن تعم علينا خيراتها؟! إننى أرى أن ما تحقق فى مصر خلال الأعوام التسعة الماضية أكثر من رائع بالنظر إلى إمكانياتنا الفعلية والظرف الحضارى المتراجع الذى تمر به مصر منذ نكسة يونيو ١٩٦٧ وتآكل قدرات الدولة المصرية عبر هذه السنوات.. وبالتالى فأنا أؤيد ترشح الرئيس السيسى لفترة رئاسية قادمة نرفع فيها جميعًا شعار الإصلاح الاقتصادى والحكومة الاقتصادية المحترفة وتمكين الطبقات الوسطى وصغار المستثمرين واحتضان الشركات الرائدة.. بحيث يكون هدف مصر فى الست سنوات المقبلة تحويل مليون شاب مصرى إلى رواد أعمال ومستثمرين ومنحهم حصصًا عادلة فى السوق المصرية مع برنامج اقتصادى قوى يضيف إلى ما تحقق على أرض الواقع، وهو كثير جدًا.. لا مانع أبدًا أن يطلق الرئيس السيسى برنامجًا انتخابيًا للفترة الرئاسية المقبلة يشرح للناس ما تحقق، ويشرح أيضًا كيف سيتم استثمار ما تحقق وتسويقه لمصلحة المصريين جميعًا.. وليكن شعارا الاستقرار والإصلاح طريقنا للمستقبل، فلا بناء بدون استقرار ولا ازدهار بدون إصلاح مستمر.. فليكن هذا إذن شعارنا.. الاستمرار والاستقرار والإصلاح معًا.. وسنصل إلى هدفنا بإذن الله.