الساحل الشرير والساحل الأكثر شرًا
سافرت فى إجازة قصيرة للساحل الشمالى فى عيد الأضحى.. حجم التغييرات فى المنطقة حوّل إجازة الصيف إلى رحلة عمل.. أصبح لدىّ شغف لأن أشاهد ماذا حدث فى المنطقة من قرية مارينا «نهاية الساحل القديم» حتى منطقة «رأس الحكمة» قبل مرسى مطروح بكيلومترات قليلة.. حجم العمران كان مفاجئًا لى لأنى لم أذهب منذ سنوات.. مدينة العلمين جوهرة عمرانية على المتوسط ما زالت فى مرحلة الرتوش الأخيرة.. مع العلمين تحوّل الساحل من مجموعة شاليهات مصحوبة بخدمات موسمية بسيطة لمكان يمكن الحياة فيه طوال شهور السنة.. حجم الاستثمار الضخم فى المدينة يكشف عن طموح كبير.. الساحل الشمالى مقسم عمرانيًا لما قبل العلمين وما بعد العلمين.. فلسفة الساحل الذى يوصف بـ«الطيب» تختلف تمامًا عن فلسفة الساحل الذى يوصف بـ«الشرير».. الساحل الشمالى بالأساس هو المسافة بين الإسكندرية ومرسى مطروح وهى ٣١٤ كيلومترًا من أروع شواطئ العالم.. رمال بيضاء ومياه فيروزية لا توجد مثلها فى مصايف المتوسط العالمية فى فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.. وفى العمق آلاف الأفدنة كانت فى الماضى حقول قمح يانعة تغذى الإمبراطورية الرومانية كلها.. لسبب ما كانت تنمية «الساحل الطيب» أو أول ٩٠ كيلومترًا تنمية كسولة وبلا طموح كبير.. تم تقسيم الشاطئ وتوزيعه على النقابات واتحادات العمال والجمعيات التعاونية.. لم يكن فى المسألة أى منطق للمساواة بين المواطنين.. وإنما الحظ والصدف والمقدرة المالية وقتها.. حتى الربح المادى لم يكن هدفًا للدولة. ولم يكن هناك أى طموح لجذب السياح لهذه البقعة الرائعة، لدرجة أنه لم تكن هناك فنادق فى الساحل كله باستثناء فندق أو اثنين على أفضل تقدير.. تحوّل الساحل منذ التسعينيات إلى «بضاعة أتلفها الهوى وسوء التخطيط» فلا هو شواطئ مفتوحة لكل المصريين بطريقة اليوم الواحد ولا بنيت عليه سلسلة فنادق متنوعة تسمح لكل مواطن بأن ينال نصيبه من رؤية البحر عدة أيام يترك بعدها الفرصة لغيره.. وإنما شاليهات مغلقة طوال العام لا يهتم أصحابها بصيانتها لأنهم حصلوا عليها بمبالغ زهيدة.. والحقيقة أن الساحل الطيب كله يصبح نموذجًا لعوار التفكير فى التنمية فى التسعينيات وانعدام الطموح والبخل فى الاستثمار وعدم وجود خيال أو رؤية فى التفكير فى مستقبل مصر وتطوير إمكاناتها فى التنافس السياحى.. ورغم أننى أنتمى اجتماعيًا لسكان الساحل الطيب من أبناء الطبقة الوسطى فإننى معجب جدًا جدًا بالرؤية التى وقفت وراء الساحل الذى يوصف بـ«الشرير».. فى سنوات قليلة تم تطهير أرض العلمين من الألغام التى ظللنا عاجزين عن إزالتها عقودًا.. وتحوّلت إلى مدينة جميلة بها فنادق وسلاسل سوبر ماركت تبيع البضائع بأسعار القاهرة.. بما فيها المياه التى يقول البعض إنها بمئات الجنيهات.. إلخ، وبها أيضًا شاطئ مفتوح للمواطنين، شاطئ لمن يرغب فى دفع رسم دخول لقضاء يوم واحد دون اشتراط أن يكون مالكًا وحدة سكنية فى العلمين أو غيرها.. بعدها توجد قرى قام بإنشائها أكبر شركات التطوير العقارى فى مصر على أحدث النظم المعمارية.. وقطع الأراضى متساوية من حيث المساحة وكل مطور عقارى ملزم بوجود فندق أو أكثر لإتاحة الفرصة لمن لا يملك وحدة سكنية كى يرى البحر، والهدف هو تحويل الساحل الشمالى لأن يكون وجهة سياحية عالمية إلى جانب البحر الأحمر الذى يأتى السياح إليه بحثًا عن الدفء.. تطوير الساحل الشمالى بهذا الشكل المخطط والمنظم هدفه أن يأتى لنا السائح الذى كان يذهب لكان ونيس وفالنسيا فى أوروبا.. لأن البحر المتوسط لدينا أجمل وأقرب.. ولكن الشيطان يكمن دائمًا فى التفاصيل.. والتفاصيل أن الجهة المقابلة لقرى الساحل الشمالى «شمال الطريق» بدأت تشهد حالة نشاط عمرانى عشوائى.. بها كل عيوب المعمار المصرى الخاص.. فالواجهات فقيرة ورديئة.. والعمارات قبيحة والألوان مزعجة.. والوضع كله يذكر بالمنظر الذى نراه ونحن نسير على الطريق الدائرى فى القاهرة الكبرى.. طريق رائع محاط بعمارات قبيحة تشبه علب الكبريت.. والحل أن تنظم المحليات عملية البناء لكيلومتر من حرم الطريق.. وأن يكون هناك نموذج عمرانى موحد يتم البناء به وأن تكون الألوان متناغمة مع البيئة.. ولتكن الأبيض والأزرق مثلًا على نمط مدينة سيدى بوسعيد فى تونس.. نفس الأمر بالنسبة لواجهات المحلات والمطاعم التى انتشرت بكثافة استجابة لحالة العمران، والتى تعنى آلاف البيوت المفتوحة.. مطلوب إبرامها بكود معين فى اللوحات وفى الإضاءة.. الساحل الذى يتكون عشوائيًا شمال الطريق هو الساحل الشرير فعلًا لأنه عشوائى وقبيح ولأنه يفسد جهود كبيرة بذلت لتحويل المنطقة لقبلة سياحية عالمية.. انتبهوا أيها السادة.