عودة وائل غنيم !
لفتت نظرى ردود الأفعال حول صورة نشرها الشاب المصرى وائل غنيم لنفسه وهو يرتدى جلبابًا ويحمل بطيخة فى طريقه لمنزله على عادة ملايين المصريين فى أشهر الصيف.. تلتها صورة أخرى له وهو يرتدى الشارة الخاصة بمبادرة حياة كريمة الشبابية ويعلن أنه فى طريقه لخدمة أهالى الأحياء الشعبية ضمن إطار هذه المبادرة الهامة.. لفت نظرى أن ردود الفعل حول الصورتين تباينت تباينًا شديدًا جدًا بين معسكرين.. المعسكر الأول معسكر من مؤيدى الدولة يرفض عودة هذا الشاب لحياته العادية ويرفض مشاركته حتى فى الأنشطة الخيرية ويشك فى إخلاصه لبلده وفى التزامه بقواعد اللعبة السياسية وقواعد القانون.. وفى مقابل هذا المعسكر معسكر آخر تمامًا ممن يظن نفسه فى معسكر «الثورة» يرثى لحال وائل غنيم أحيانًا.. أو يصور ما هو فيه على أنه هزيمة شخصية وسياسية أحيانًا.. أو يتهمه بالتفريط والخيانة أحيانًا!!.. والمعنى هنا أن هذا الشاب المثير للجدل متهم بالخيانة من معسكر المؤيدين استنادًا لما قام به فى الماضى.. ومتهم بالخيانة من معسكر من يظنون أنفسهم معارضين استنادًا لما قام به فى الحاضر.. ولعل ما لفت نظرى هو غياب التحليل العلمى لسلوك هذا الشاب من كلا الجانبين.. وغياب الحس السياسى فى مقاربة موضوعه كله من جهة المتفرجين لا من جهة الفاعلين.. كى نخضع الأمر لتحليل علمى فلا بد أن نفترض حسن النوايا.. ذلك أن سوء النوايا منوط بالتعامل معه أجهزة مختصة تبدو دائمًا فى أقوى حالاتها وجاهزيتها خلال السنوات الأخيرة.. إذا افترضنا حسن النوايا فهذا الشاب فى يناير ٢٠١١ كان يحسب نفسه «ثوريًا» يسلك سلوك الثورة الذى يعتقد أن عليه أن يبدأ بالهدم ثم ينتقل للبناء.. وقد أثبتت له تجربته وربما لملايين المصريين أن الهدم لا يعقبه سوى مزيد من الهدم ومزيد من الخراب وأن الثورة التى سعى لإشعالها- بافتراض حسن النوايا- تمت سرقتها من تنظيم إرهابى سطا على الدولة ثم قادها للفشل والصدام مع مجموع المصريين.. وهكذا أثبتت التجربة العامة وربما الشخصية التى مر بها هذا الشاب أن الطريق الذى سماه طريق الثورة فاشل ومسدود ولا يصلح فى مصر بمقدار ذرة لاعتبارات متعددة.. هنا يكون أمام الشاب اختياران.. إما أن يختفى من الحياة العامة تمامًا.. أو أن يسلك طريقًا آخر هو طريق «الإصلاح».. إنه نفس الطريق الذى سار فيه مصريون عظام مثل رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وعلى مبارك وطه حسين وأسماء أخرى كثيرة.. إن الإصلاح هو العمل من داخل مؤسسات الدولة وبالتعاون معها لإصلاحها والعمل على نهضتها والقضاء على المظالم التى يشكو منها الناس بالتعاون مع صاحب القرار.. إن ميزة الإصلاح أنه إن لم يكن مفيدًا فإنه لن يكون مضرًا.. وإذا أخفق مرة فإنه يصيب مرات.. وإذا قاومته مؤسسة من المؤسسات يمكن أن يجد له نصيرًا فى مؤسسات أخرى.. إن مشكلتنا أننا فى السنوات الأخيرة غيبنا السياسة عن حياتنا بفعل المواجهة مع الإرهاب حتى باتت النخبة نفسها تفكر بطريقة غير سياسية.. وهذا خطأ.. لقد انتصرنا على الإرهاب بالفعل.. ولا بد أن نفتح مزيدًا من الأبواب للعمل السياسى بحرص وحذر ولكن بالمقدار الواجب من المرونة.. إن علينا أن نعود للتاريخ السياسى لمصر والعالم لنستقى منه التجارب قبل أن نصدر الأحكام.. لقد قامت دولة يوليو بدمج العديد من المعارضين فى مؤسساتها المختلفة فى مراحل مختلفة كان أشهرها عام ١٩٦٥حين أقدمت الأحزاب اليسارية على حل نفسها واندمجت فى مؤسسات الدولة المصرية عن قناعة ويكفى أن نذكر أسماء عدد من رموز الثقافة خدموا الدولة المصرية بصدق بعد هذا الاندماج كان منهم د. محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس ورفعت السعيد والصحفى الكبير صلاح حافظ وعالم الذرة د. عبدالمعبود الجبيلى «تولى رئاسة هيئة الطاقة النووية» ويكفى أن نعلم أن أسماء مثل عبدالرحمن الأبنودى وجمال الغيطانى وصلاح عيسى كانوا من الشباب المعارض فى منتصف الستينيات ولا أظن أن أحدًا يمكنه التشكيك فى قيمة أصحاب هذه الأسماء الوطنية والثقافية ولا فى ولائهم لوطنهم وشعبهم ودولتهم.. يجب أن نقرأ أيضًا تاريخ حركة الطلاب فى أوروبا ١٩٦٨ وهى حركة كان مركزها فرنسا.. رفعت مطالب شديدة الثورية.. لكن عددًا من قادتها تحولوا مع الوقت إلى رؤساء وزراء ووزراء وقادة سياسيين فى فرنسا.. حيث إن القادة السياسيين لا يمكن تصنيعهم ولكن يمكن استقطابهم ودمجهم فى العملية السياسية لمصلحة بلدانهم ومجتمعاتهم.. نفس الأمر طبقه عدد من أكثر الحكام دهاءً فى التاريخ منهم أحد الملوك العرب الذين امتد حكمهم سنوات طويلة وعرفوا بحسن السياسة والبراعة فيها، حيث تُفاجأ وأنت تقرأ تاريخ هذه الدولة الشقيقة أن الوزير الفلانى اتهم فى قضية انقلاب لكن الملك عفا عنه بعد فترة ثم عينه وزيرًا. ثم تقرأ نفس القصة بحذافيرها مع شخص آخر فتفاجأ بأن المتهم هذه المرة تم تعيينه رئيسًا للوزراء!!! لكل مجتمع ظروفه بالطبع.. ولكن المقصود أن علينا أن نتيح الفرصة لمزيد من الخيال السياسى ومن الاستيعاب ومن بناء التحالفات لضمان الاستقرار ولمن يملكون الحس السياسى من مسئولينا كى يعملوا.. أما أولئك القلقين من أشباح المؤامرات فعليهم أن يطمئنوا تمامًا.. فطبيعة الرئيس الشخصية والمهنية وقوة مؤسسات الدولة كفيلة بطمأنة الجميع.