«شيخ الجبل» يغادر «القلعة»
عقب اغتيال الوزير «نظام الملك» ومن بعده السلطان «ملكشاه»، خاض السلطان السلجوقى الجديد «سنجر بن ملكشاه» المعركة تلو الأخرى ضد «الحشاشين» أتباع الحسن الصباح، بعد أن كثرت وتوالت ضربات الفدائيين للأمراء السلاجقة ورجال دولتهم، لكن الضربات المتتالية من جانب السلاجقة لم تفلح فى القضاء على الفدائيين وفرق الموت والاغتيالات، الأمر الذى اضطر السلطان «سنجر» إلى مهادنة الإسماعيليين وعقد صلح معهم، بعد أن استيقظ من نومه ذات يوم فوجد خنجرًا إلى جوار فراشه.
أصيب «سنجر» بالفزع، وبدأ يشعر بأن الخطر آخذ فى الاقتراب منه بشكل شخصى، ولم يجد مناصًا من التفاوض مع الحسن الصباح والتصالح معه اتقاء لشره، خصوصًا أنه لعب بكل ما يملك من أدوات مع «شيخ الجبل» دون جدوى، أضف إلى ذلك ما أحسه من تنامى شعبية «الصباح» وجماعة «الحشاشين». فعمليات الاغتيال الدقيقة والحاذقة التى قام بها أفراد الجماعة أبهرت قطاعًا لا بأس به من البسطاء، وحفزت بعضهم على الانضمام إلى فرق الاغتيالات، التى مثلت فى نظرهم إحدى صور البطولة، خصوصًا عندما كانت عمليات الاغتيال تتوجه إلى وزراء ورجال دولة يسرفون فى ظلم الأهالى. فالشعوب بطبيعتها تنبهر بالأعمال الكبرى التى تعجز بشكل ذاتى عن الإتيان بها، حتى ولو تمثلت هذه الأعمال فى قتل الآخرين، أو الإجادة فى الاحتيال عليهم لإيقاعهم فى فخ الموت، أو القدرة على الهروب والتفلّت من العقاب.
وفى عهد السلطان «بركيارق بن ملكشاه» الذى خلف شقيقه «سنجر» فى الحكم استطاع الحشاشون الاقتراب من بلاط الحكم السلجوقى، ساعدهم على ذلك دعمهم له، فى مواجهة منافسيه على السلطة، وقد زرع هذا التحول لدى بعضهم إحساسًا بالتمكين، وشعروا بأن الجميع يخشاهم، بعد أن أصبحوا يتجولون فى قصر الحكم كما يشاءون، وقد كان القادة والأمراء يخشون «الحشاشين» بالفعل أشد الخشية خلال هذه الفترة.
يصف «ابن الأثير» حالة التمدد والتمكن التى حظى بها «الحشاشون» حينذاك قائلًا: «فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمدًا، وقُتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم- أى الحشاشين- فى العسكر، واستغووا كثيرًا منهم، وأدخلوهم فى مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسرًا، بل يلبس تحت ثيابه درعًا، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس درعًا تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصُه فى الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم فى ذلك». لقد بلغ الخوف من الحشاشين مبلغه لدى الكبار، وهذا هو أحد الفخاخ الذى تقع فيه جماعات العنف السياسى، حين تشعر أن الزمان أعطاها وجهه، فتجدها تفتقر إلى الحكمة فى تهذيب طموحاتها فى السيطرة والاستحواذ، فتكون عاقبتها خسارة كل شىء.
نشطت حاشية السلطان «بركيارق» فى تحذيره من حالة التمدد التى حظى بها «الحشاشون» داخل بلاط حكمه، وأقنعوه بحقهم فى حمل السلاح، دفاعًا عن أنفسهم ضد محاولات الاغتيال التى يقومون بها. ويشير «ابن الأثير» إلى أنهم أشاروا عليه أن يفتك بهم، قبل أن يعجز عن تلافى أمرهم، وأعلموه بما يتهمه به الناس من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، ويقولون يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان فى قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم، ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف، وأُخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقُتلوا، وقُتل منهم أبرياء لم يكونوا معهم، سعى بهم أعداؤهم. وما أكثر ما يقع ذلك حين تتجه السلطة بالعقاب إلى جماعة كانت تتسكع فى أروقتها بالأمس، إنها تتعامل فى هذه الحالة بدرجة واضحة من القسوة، وكأنها تعاقب على تاريخ كامل وليس على واقعة بذاتها أو فترة زمنية بعينها، لذلك تجد أن من الوارد جدًا أن تسقط دماء بريئة فى خضم العقاب.
تعرضت الجماعة بعد هذه المذبحة لنكسة كبيرة، ولم تعد لديها القدرة على العمل، بما فى ذلك مجموعات «الفداوية»، وظل الحال على ذلك فترة من الوقت، حتى استعادت نشاطها وقدرتها، وبدأت الدولة السلجوقية تخوض معها صراعًا طويل الأمد، وتراوح حال حملة السيف من «الحشاشين» ما بين الانتصار حينًا، والانكسار فى أحيان.
وجاءت بداية النهاية لجماعة «الحشاشين» مع وفاة المؤسس الأول للجماعة «الحسن الصباح» بعد أن مرض مرضًا شديدًا. مات «الصباح» عام ٥١٨ هجرية بعد ما يزيد على ٣٠ عامًا من اغتياله صديقه الأول والأوحد «نظام الملك» عام ٤٨٥ هجرية، وبعد أن دوخ معاصريه بجماعته التى رفعت راية التمرد والعصيان، فقتلت الكثيرين، وقُتل من أعضائها ومنتسبيها الكثيرون. مات الرجل الذى عاش ومات لا يعرف إلا نوعًا واحدًا من التجارة هو «تجارة الدم»، وهى التجارة التى مارسها مع كل من حوله بما فى ذلك «نظام الملك» صديق طفولته، الرجل الذى عاش ومات كسياسى محترف، يعرف كيف يخدم أنظمة الحكم ويطور من أدائها، وقد ترك أثرًا علميًا خالدًا فى هذا المجال يتمثل فى كتاب «سياست نامة».
مات اثنان وبقى الأخير من الأصدقاء الثلاثة، وهو الشاعر عمر الخيام، الرجل الذى ترك السياسة بطرفيها الحاكم والمعارض وذاق ملذات الحياة، واستغرق بكامل طاقته فى العلم والفلسفة، وغاص فى بحار الشعر والتقط منه لآلئ براقة مبهرة من المعانى.