«على مبارك» و«النديم» مثلًا!
التقرير الأخير لـ«الإيكونوميست» عن مصر وردت به عبارة تكشف جهل كاتبه.. لقد أراد أن يهاجم الرئيس السيسى فشبهه بحاكم مصر الخديو إسماعيل! إن هذا التشبيه وحده دليل على جهل هذا المحرر.. لقد أراد أن يهاجم الرئيس فشبهه بأفضل حكام مصر بعد محمد على باشا وأحد بناة مصر الحديثة.. لقد كتبت من قبل فى إنصاف الخديو إسماعيل بانى المدن والقناطر والسدود ورائد التعليم والزراعة، وسأكتب مرة أخرى ولكن هذا ليس موضوع المقال.. إن محرر الإيكونوميست استقى وجهة نظره من الشارع.. والشارع استقى كثيرًا جدًا من انطباعاته من جماعة الإخوان الإرهابية.. ومن مناهج التعليم التى عبرت عن وجهة نظر هذه الجماعة، ومن الإعلام الذى تأثر بوجهة نظر الجماعة بينما قادتها فى السجن.. من الخمسينيات حتى الآن!.. لا أريد أن أدخل فى تفاصيل كثيرة.. ولكن أقول إننا فى حاجة لإعادة كتابة تاريخنا بعد تطهيره من شوائب التعصب الدينى والوطنى الذى زرعته جماعة الإخوان فى عقل المجتمع.. لقد اختلفت ثورة يوليو مع جماعة الإخوان فى عام ١٩٥٤ بسبب رغبة الجماعة فى الحكم وبسبب تورطها فى الإرهاب.. لكنها لم تكن تختلف معها فى الموقف من تاريخ مصر.. كان لثوار يوليو وجماعة الإخوان نفس الموقف تقريبًا فى فهم ما جرى لمصر منذ عهد محمد على حتى قيام الثورة.. ولم يكن غريبًا أن يتولى وزارة التعليم كمال الدين حسين أقرب ضباط الجماعة لفكر الإخوان «كان قريبًا من الفكر وليس عضوًا فى التنظيم»، وأن يخرج هذا الوزير عام ١٩٦٥ بعد أن اتهم بتوزيع كتب سيد قطب على ضيوفه.. تعال ننتقل للثمانينيات مثلًا ونرى موقف وزارة الإعلام المصرية وموقف مناهج التعليم وموقف الصحافة وموقف التاريخ من شخصيتين عاشتا فى نفس التاريخ تقريبًا، أولهما هو عبدالله النديم وثانيهما هو على مبارك.. إن النديم نجم جماهيرى.. أنتج التليفزيون مسلسلًا عن حياته كتب له الأبنودى مقدمة رائعة غناها على الحجار.. ونحن ندرس سيرته فى المدارس.. هو وطنى شجاع.. خطيب مفوه.. محرض جماهيرى.. أشعل نار الثورة ثم هرب ثم مات.. على الجهة المقابلة نحن لا نكاد نعرف شيئًا عن على مبارك باشا.. إن تاريخه مسكوت عنه.. لا مسلسلات تخلد اسمه.. لا أغانى تتغنى بشجاعته.. لا دروس تاريخ تتحدث عن حياته.. ولا أدباء كتبوا سيرته مثلما فعل الأديب أبوالمعاطى أبوالنجا مع عبدالله النديم.. لماذا أعطينا كل هذا الاهتمام للنديم ولم نعطه لعلى مبارك؟ لأننا عاطفيون.. نفكر بقلوبنا لا بعقولنا.. ولأننا نظن أن المشاعر تكفى لدفع الوطن للإمام دون عمل.. ولأننا نظن أن الوطنية هى الكلام لا الفعل، والنديم أستاذ فى الكلام وعلى مبارك أستاذ فى الفعل، وأخيرًا لأن عبدالله النديم أشعل نار الثورة ثم اختفى، وعلى مبارك وقف ضد الثورة لأنه يؤمن بالإصلاح لا بالثورة، والحق أنه كان إصلاحيًا عظيمًا.. إن النديم مصرى عظيم بلا شك.. وقد أحبه المصريون لأنه يشبه المصرى العادى.. لم يكمل تعليمه.. خفيف الظل.. اكتسب لقب «النديم» لأنه كان يسامر الأغنياء والتجار ويسهر معهم ليلقى النكات والأزجال الساخرة.. افتتح محلًا فى المنصورة فلم ينجح لأنه كان يعطى أهمية لمجالسة الناس وجلسات السمر.. عمل تلغرافيًا فى القصر الخديوى ثم بدأ يكتب فى جريدة «مصر» التى أسسها أديب إسحق وكانت معارضة للخديو.. تعال ننتقل لعلى مبارك.. إنه فلاح من برمبال دقهلية.. طفل نابغ لوالد فقير من قراء القرآن.. هرب من أسرته وسار فى القرى يبحث عن خاله.. قبض عليه لسبب ما فاكتشف مأمور المركز إجادته الحساب واللغة، فعينه كاتبًا وهو فى الحادية عشرة من عمره.. ثم امتحنته لجنة من رجال محمد على كانت تجوب القرى تبحث عن النابهين.. دخل المدرسة العسكرية ثم المهندسخانة ثم سافر لباريس فى بعثة تضم أبناء محمد على وإبراهيم باشا «كان الخديو إسماعيل زميله فى البعثة»، كان إبراهيم باشا يشرف على البعثة بنفسه.. عاد ليخدم فى الجيش فى عصر عباس وسعيد لكن دوره الأعظم كان فى عهد زميل دراسته الخديو إسماعيل، وإليك بعضًا من أدواره.. بنى القاهرة الخديوية.. أصلح القناطر الخيرية.. أسس دار العلوم.. أسس مدارس البنات.. ألف الخطط التوفيقية من عشرين جزءًا، تولى وزارتى التعليم والأشغال العمومية معًا.. له عشرات الإنجازات التى نعيش فى ظلها حتى الآن.. لكننا لا نعرفه ونعرف عبدالله النديم الذى- مع كامل الاحترام- كانت صنعته الكلام فقط.. لن نتقدم إلا إذا أعدنا كتابة تاريخنا.. ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.