ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. السودانيون عاجزون عن «دفن الأحبة»
جثث منتفخة وأخرى متحللة. بعضها في العراء أو داخل السيارات، يكسر صمتها أحيانًا عواء الكلاب الضالة التي تنبش في الجثامين المُلقاة داخل شارع الجزار بالعاصمة الخرطوم في السودان وأحيانًا أخرى أصوات الطائرات المارّة فوق الأجساد.
يقطع عواء الكلاب صوت أقدام تجوب بين الجثث سريعًا، حيث عادل هارون، مواطن سوداني، يبحث عن جثمان شقيقه الذي قُتل في إحدى غارات القصف الدائرة التي وقعت بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 3 مايو، وظل جثمانه مُلقى بالشارع لأكثر من أسبوعين.
وصل هارون إلى جثة شقيقه لكنها كانت منتفخة بشكل مخيف وتنبش الكلاب فيها حسبما يصف لـ«الدستور»: «أحضرنا عربة كارو لعدم وجود وقود للسيارات حاولنا رفع الجثة ولكن بسبب تحللها كانت أجزاء من جثمان شقيقي تتساقط أمامي».
أسوأ ما يمكن أن يعلق بذاكرة الحرب أن السودانيين عاجزون عن دفن ذويهم من ضحايا الحرب المدنيين، فاضطروا إلى دفنهم في باحات المنازل وأحيانًا تركهم للتحلل في الشوارع وسط عمليات القصف المستمرة التي حالت دون وصولهم إلى مقابرهم وستر جثثهم، فامتلأت بعض الشوارع بالجثامين، في وقت خرجت فيه مشارح المستشفيات عن الخدمة بسبب امتلائها أيضًا بالأجساد.
هارون يدفن شقيقه في الشارع: «أخاف أن تنبش الكلاب عليه وتخرجه»
استدل هارون على مكان جثمان شقيقه بعدما قيل له إن شارع الجزار به جثث مجهولة في المنازل وداخل الأكشاك والباحات وعليه أن يبحث هناك: «تواصلت مع مبادرة مجتمعية للبحث عن جثث الضحايا ودفنهم، كنا نبحث وسط عمليات القصف المستمرة فوقنا».
حاول هارون دفن شقيقه في مقابر البكري الخاصة بعائلته في أمدرمان، إلا أن القصف المستمر حال دون ذلك: «حاولت دفنه في الشارع إلا أن السلطات هناك منعت تواجد أي مواطنين، فتركته للمجهول ليومين إضافيين، ثم عدت بأدوات حفر وساعدني شباب من أهل الشارع ودفناه في حفرة عادية وغير عميقة أخاف أن تنبش الكلاب قريبًا وتخرجه».
منتصف أبريل العام 2023 حدث نزاع مسلح بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبدالفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أدت إلى مقتل 866 مدنيا ونحو 3721 جريحا، إضافة إلى 900 ألف نازح ولاجئ وفق نقابة الأطباء بالسودان. بينما تجددت الاشتباكات بالأمس بعد انتهاء مدة آخر هدنة متفق عليها مباشرة.
850 جثمان تم دفنهم في الشارع.. 29 مشرحة تخرج عن الخدمة
هو نفس المصير الذي واجهه 850 جثمانًا آخرًا من الضحايا المدنيين في السودان، دُفنوا في باحات منازلهم أو في الشوارع منذ بدء الحرب وحتى الآن، وفق الدكتور محمد أحمد علي، مدير لجنة أطباء السودان المستقلة؛ لعدم قدرة ذويهم على الوصول إلى المقابر في العاصمة الخرطوم بسبب الوضع الأمني المحتدم.
يشير علي لـ«الدستور» إلى أن هناك جثامين تم دفنها في الشوارع ولكنها غير مشمولة في ذلك الحصر، لأن ذويها لم يتمكنوا من الوصول إلى المستشفيات حتى يتم تسجيل دخول أو خروج الجثمان ودفنت في الطرقات أو تُركت حتى تحللت.
وضع الجثث في العاصمة الخرطوم مأساوي بحسب وصف مدير اللجنة، حيث يقوم ذوو الضحايا بدفن جثثهم في المنازل، مبينًا أنه بمجرد وصول جثة للمستشفى يتم نشر صورها في القنوات الإعلامية حتى يتمكن ذويه من معرفته، وبعد مرور شهر إذا لم يستطع ذويه الوصول إليه تقوم اللجنة بدفن الجثة في الباحات الخارجية.
وامتلأت ثلاجات بعض المستشفيات في الخرطوم بالجثث، وفق مدير اللجنة، منها مستشفى شرق النيل ومستشفى الساحة في الخرطوم ومستشفى النساء والتوليد بأمدرمان، وبعضها خرج من الخدمة لعدم قدرته على استيعاب تلك الأعداد وقلة أعداد الطواقم الطبية.
محمد: «جثمان شقيقتي ظل بالعراء ودفن دون كفن أو غسل»
لم يستطع الطاقم الطبي بالفعل الوصول إلى الجثث الموجود داخل المنازل المُطلة على المطار الحربي، لكونها أعنف مناطق الاشتباك في الخرطوم، كان من بينهم جثمان شقيقة محمد بشري: «كان يوم 19 أبريل قبيل الإفطار في رمضان، حين بدأ القصف من ناحية بري، وأصيبت شقيقتي بالرصاص، حاولت إسعافها إلا أن باحة المنزل تحولت إلى حرب شعواء».
اختبأ محمد بحسب وصفه لـ«الدستور» من الرصاص أسفل أنقاض إحدى المنازل المنهارة حتى حلّ عليه الليل. وفي النهار كانت باحة المنزل مليئة بالجثث والأرض مشبعة بالدماء والأشلاء، ظل يبحث عن جثمان شقيقته ساعة ونصف حتى عثر عليه: «كانت في حالة صعبة الجسد ظل يومًا وليلة كاملة في العراء دون دفن».
لم يجد محمد سيارة تنقل جسد شقيقته إلى مقابر الأسرة في منطقة البكري: «الطريق إلى المدافن كان مُلبدًا بالقصف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، الأرض ليس عليها موطأ قدم، والجسد كان سيتعرض لمزيد من الانتهاك في حال نقله».
أنهك الصيام محمد وبلغ التعب مداه في محاولة الوصول إلى المقابر وسط الاشتباكات، فاضطر إلى دفن شقيقته أمام باحة المنزل، أحضر أدوات الحفر وبدأ في جرف الأرض ووضع جسد شقيقته فيها وردم عليه دون غُسل أو تكفين.
حتى تلك اللحظة توجد جثثًا أمام منزل محمد لم يتم دفنها ظلت بالعراء وتحللت فيه، منها نساء وأطفال ورجال لم يصل إليهم ذويهم: «حين بدأت الهدنة كان صعبًا على الأهالي الدخول لتلك المنطقة بسبب الروائح واستحالة جذب الجثث المتناثرة على الأرض».
الهلال الأحمر السوداني: «الجثث تدفن في الشوارع وبالمقابر الجماعية»
منذ بدء الحرب ويحاول الهلال الأحمر القيام بذلك الدور وسحب الجثث من الشوارع لدفنها، وفق الدكتور حسن خميس، رئيس الفريق القومي للطوارئ في جمعية الهلال الأحمر بالسودان، الذي تخصص فريقه في برنامج إدارة الجثث ودفن الميتة منذ يوم 5 مايو الماضي وحتى الآن بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
يقول لـ«الدستور»: «الوضع صعب ونواجه تحديات يومية منها التصديق أو السماح للفريق بالمرور لأخذ الجثث والذي يتطلب إجراءات طويلة ويؤدي إلى تحلل بعضها في الشارع، إلى جانب عدم توافر مواقع لتخزين الجثث التي لا يتمكن الفريق من دفنها في الحال».
وعن طريقة الدفن يوضح أنه يتم تحديد تفاصيل الجثة وتصويرها ثم دفنها في مقابر جماعية لها خريطة خاصة، مطالبًا المجتمع الدولي بتوفير معدات ومواد إدارة الجثث ودفن الموتى وتوفير وسائل النقل والعربات إلى المقابر بدلًا من دفنها في الباحات وتحللها في الشوارع.
مبادرة نقل الجثث: «الجثامين المتحللة تتساقط أجزاء منها وقت النقل»
يعاون الهلال الأحمر في مهمته الشاقة بعض المبادرات المجتمعية الفردية، منها مبادرة يقودها محمد موسى لدفن الجثث مجهولة الهوية، ولكن تعيقه الإمكانيات القليلة فلا يملك سوى مجموعة من المتطوعين مثله: «أعدادنا قليلة ولا نملك وقودًا لنقل الموتى، والجثث أكثر من الاستيعاب».
يوضح لـ«الدستور» أنهم يمارسون عملهم في خضم إطلاق النيران بين أطراف النزاع: «نعمل مع جثث متحللة مرّ عليها أوقات طويلة دون ملابس وقائية أو أوعية تحفظ سلامتها وأثناء عمليات النقل يحيطنا الخطر من كل جانب، ونتعامل مع أشلاء متحللة وجثامين تتساقط أجزاء منها».
سهيل يترك جثمان أمه في العراء: «كنت أتمنى لها موت كريم»
حاولت تلك المبادرة مساعدة سهيل ناصر، مواطن سوداني، يقطن في منطقة الفكي هاشم شمال الخرطوم، حين أُبلغ في 5 مايو أن منزل أمه في ضاحية بري بشارع الإنقاذ قُصف في اشتباكات حدثت فجرًا، هرول سريعًا بسيارته إلا أنه لم يستطع دخول الشارع بها لكونه مليئًا بالجثث حسبما يصف لـ«الدستور».
يقول لـ«الدستور»: «وجدت إطارات سيارتي تدهس الجثث المُلقاة على الأرض، ترجلت وبدأت أنادي وأبحث عن أمي كالمجنون. الأسفلت مليء بالدماء والجثث في كل مكان، كنت أتمنى ألا أجدها، أو أجدها حيّة، لكنني وجدتها جثة، كانت أمي مُلقاة على الأرض منذ 4 أيام وأنا لا أعلم».
على مدار الثلاثة أيام التالية حاول سهيل أن يتواصل مع الهلال الأحمر أو لجنة دفن الجثث في السودان من أجل نقل أمه ودفنها في المقابر، إلا أن الوضع تأزم وتجددت الاشتباكات في الأيام التالية فلم يستطع أحد دخول الشارع.
إلى الآن لم يدفن سهيل أمه وتحلل جثمانها في شارع الإنقاذ بجانب جثث كثيرة من المدنيين لم تلق موتة كريمة: «كنت أتمنى أن أعرف قبر أمي وأضمن لها خاتمة حسنة أبسط حقوقها بعد الموت أن تُدفن ولا تترك في العراء حتى تتحلل مثل جثامين كثير من السودانيين في الشوارع».
استشاري الطب الشرعي: «الجثث المتحللة بالشوارع تنذر بكارثة صحية»
يشرح الدكتور هاشم محمد صالح فقيري، استشاري الطب الشرعي والسموم ومدير هيئة الطب العدلي بوزارة الصحة السودانية، خطورة ترك الجثث في الشوارع أو دفنها في باحات المنازل داخل حفر ليست عميقة: «هناك نوعان من الجثث إما متحللة أو غير وجميعها تمثل خطورة في العدوى وكارثة بيئية إذا لما يتم التعامل معها بحذر شديد».
يقول لـ«الدستور»: «إذا اضطر مواطن التعامل المباشر مع جثة أحد أقاربه عليه ارتداء قفازات وكمامة ولا يتم غسل الجثامين المتحللة لعدم نشر الميكروبات ثم استخدام كيس بلاستيك (مشمع) ثم التكفين بأي قماش محكم».
وبحسب فقيري فإنه في حالة الجثث مجهولة الهوية لا بد قبل التكفين أو الدفن إجراء عملية التصوير للعلامات المميزة بالجسد تحديدًا والملابس وخلافه وتسجيل بياناته إن وجدت، وترقيم الجثة ومكان دفنها حتى يستطيع ذويها معرفة ذلك فيما بعد».
ويحذر من أن عدم دفن الجثث سيؤدي إلى كارثة بيئية خاصة مع هطول أي أمطار، ستختلط المياه بعفن الجثث ويتم تصريفها في المجاري والطرقات، ما يؤدي لانتشار الأوبئة واحتمالية العدوى بين المواطنين فلا بد من دفنها بشكل صحيح أو حفظها بثلاجات الموتى.
نقابة الأطباء: «29 مشرحة خرجت عن الخدمة بسبب تكدس الجثامين»
يكشف الدكتور أحمد عباس أبو شام، عضو نقابة الأطباء في السودان، عن خروج 29 ثلاجة موتى (مشرحة) في المستشفيات بالخرطوم عن الخدمة، بسبب تكدس الجثامين بها وعدم قدرة وصول الطاقم الطبي إليها، ولم يتبق سوى 4 مشارح تعمل على مستوى العاصمة كلها.
ويحذر أبو شامة في تصريحات لـ«الدستور» من وقوع كارثة بيئية محتملة بسبب الجثث المتكدسة في مناطق متفرقة جنوب الخرطوم ومنطقة بحري حول شارع الصناعات، مبينًا أن بعض المبادرات الفردية ظهرت لجمع الجثث ودفنها ولكن أصبحت عملية شاقة لعدم توفير وسائل حماية أثناء التعامل مع الجثث المتحللة».
وعن دور النقابة، يوضح أنها قامت بمحاولة مع الهلال الأحمر لجلب حاويات تجمع الجثث من الشوارع بأرقام معنية ويتم دفنها في أماكن معلومة لكن المسألة معقدة، بسبب تكدس المشارح وزيادة الجثث في الشوارع عن حد الاستيعاب.
وطالب عضو نقابة الأطباء بضمانات دولية لوقف إطلاق النار وتدشين ممرات لعبور الكادر الطبي لانتشال تلك الجثث ودفنها لتفادي الكوارث البيئية، ويتم ذلك برعاية المجتمع الدولي حتى لا تكون حقيقية ولا يتم خرقها، ويستطيع ذوي الضحايا الوصول لمقابرهم ودفن جثثهم.
مجدولين.. جثمان متحلل ودفن في حديقة المنزل
حالت الاشتباكات المستمرة دون وصول ذوي الدكتورة مجدولين يوسف استشارية التخدير والرعاية المركزة في مستشفى الأطباء إلى المقابر لدفنها، إذ ظل جثمانها بعد وفاتها في منزلها المطل على المطار الحربي لمدة أسبوعين حتى بُلغت إدارة المستشفى بالأمر.
الدكتور شريف عبدالرحمن، طبيب تخدير وعناية في ذات المستشفى، وأحد المشاركين في دفن الدكتورة مجدولين، يصف لـ«الدستور» منزلها بأنه كان في إحدى مناطق الاشتباكات الصعبة ورغم ذلك ذهب هو ومجموعة من الكادر الطبي لتكريم الجثمان وتمت عملية الدفن تحت مرمى النيران والقناصة.
يقول: «الجثمان كانت حالته سيئة للغاية ومتحلل، وكان صعب دفنها في المقابر بسبب القصف المستمر، لذلك حفرنا في حديقة منزلها ووضعنا الجسد دون غسل أو تكفين فقط غلفناه بأكياس بلاستيكية».
ما زالت هناك جثث داخل البيوت؛ وفق شريف؛ لصعوبة الوصول إلى كل المقابر القريبة بسبب القصف، ولا توجد أي وسيلة نقل لعدم وجود وقود أو عربات متحركة بالشوارع، وأغلب الجثث مرّ عليها 15 يومًا ويصعب حملها باليد لغير المتخصصين لا سيما مع عدم توافر المستلزمات.
مناطق يصعب الوصول للمقابر بها
يفسر عبدالباسط عيسى (اسم مستعار)، كان يعمل في مقابر البكري بأم درمان قبيل الاشتباكات، عدم قدرة السودانيين الوصول إلى المقابر بسبب انتشار الجنود بها في كبرى المنشية ومقابر بري والبكري وهي مطلة مباشرة على المطار الحربي وهي أكثر المناطق المشتعلة في السودان.
يوضح لـ«الدستور» أن المناطق التي يصعب الوصول إلى المقابر بها هي منطقة الخرطوم شرق وتشمل بري والمنشية والطائف والمعمورة واركويت والجريف، بجانب مناطق جبرة والديم والعمارات والصحافات رغم وجود أكبر مقبرة بالسودان بهذه المنطقة منطقة الصحافة.
وفي حال وصول ذوي الضحايا من المدنيين إلى المقابر لدفن ذويهم فهناك أزمات أخرى، وفق عبدالباسط وهي غياب السكان وعدم توافر مياه غسل للميت وغيره من الصابون والمسك والأهم الكفن، بجانب المشيعين والذين يقومون بحفر المقبرة والدفن بالطريقة الصحيحة.
ما زال هارون يؤمن موضع دفن جثمان شقيقه خوفًا من نبش الكلاب له، بينما محمد نسى أين دُفنت شقيقته بسبب كثرة الجثث والأنقاض، فيما يحلم يوميًا سهيل بجثمان أمه الذي تحلل دون دفن.