محافظون و تجارب 4
محافظون وتجارب (4).. القاهرة عن قرب
في فبراير عام 1997 ومع صدور العدد الأول من جريدة الأسبوع بدأت رحلتى مع عالم المحليات، عندما أصبحت محرر شئون العاصمة بطلب منى لرئيس التحرير الأستاذ مصطفي بكرى، لتتحول هوايتى "بالتجول" في شوارع القاهرة وحواريها ومناطقها الأثرية التى أعشقها، إلى مجال عمل يخرج طاقة الحب لمهنتى "الصحافة" ويعزز فهمي لبلدى ويقوى دورى تجاه وطنى فصدق من قال
"حل نصف مشاكل مصر في المحليات".
كانت الفرصة حقيقية لأكون شاهدًا على كثير من القرارات المهمة، ولأكون شاهد عصر على طريقة إدارة الدولة عن قرب في أكثر المحافظات خطورة وأهمها على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.
بدأت عملى وكان الراحل عمر عبدالآخر محافظًا للقاهرة لمدة 7 سنوات متتالية خلفًا للدكتور محمود شريف محافظ القاهرة الأسبق ووزير الإدارة المحلية فيما بعد، شهد الجميع للمحافظ عمر عبدالآخر بالجدية وحنكة الإدارة التى اكتسبها من تدرجه في عدة مناصب بدأت بمساعد محافظ ثم نائب ثم محافظ للقليوبية وبعدها للجيزة قبل تولى مسئولية محافظة القاهرة، كنت حاضرًا دائمًا لجلسات المجلسين التنفيذي والمحلى.
وهى جلسات تشعرك بإدارة دولة كبيرة وراسخة، فالمناقشات تطال كل شيء، أزمات يومية وقضايا قومية وحتى مباريات الكرة والبطولات التى ستقام على أرض المحافظة كان يتم مناقشة كل تفاصيلها.
كنت شاهدًا على واحد من أهم قرارات المحافظ عمر عبدالآخر بنقل سوق الخضار من روض الفرج إلى العبور، وهو القرار الذي عارضه تجار سوق روض الفرج بشدة وعلى رأسهم النائب الصعيدى عبدالرحمن راضي، الذي أعتبر القرار موقفًا شخصيًا ، ما كان لمحافظ صعيدى أن يتخذه باعتباره بلدياته فكلاهما (النائب والمحافظ) ينتميان لمدينة طهطا بمحافظة سوهاج، وكان النائب يتعامل مع الأزمة بشكل قبلى وعائلى، بينما يمثل المحافظ سلطة الدولة وهيبتها، وانتهى الأمر باقتحام الشرطة سوق روض الفرج باستخدام القنابل المسيلة للدموع وكادت تقع مجزرة- كنت شاهدًا عليها من داخل السوق لحظة الاقتحام-، ولم تمض شهور حتى تحول سوق العبور إلى أكبر تجمع لتجارة الخضار والأسماك وتحول سوق روض الفرج إلى قصر ثقافة وتجمع نموذجى للشباب.
وفي إحدى جلسات المجلس التنفيذي، الذي يضم وكلاء الوزارات ورؤساء الأحياء وقيادات المحافظة الشعبية والتنفيذية، طلب المحافظ عمر عبدالآخر من الحاضرين الإنصات والتركيز لمناقشة موضوع مهم، كان الموضوع هو عرض مقدم من إحدى الشركات الكبرى المملوكة لرجل أعمال مهم يطلب فيه الموافقة على إصدار تراخيص بناء لمبنى يطل على النيل في منطقة رملة بولاق، هذا المبنى يزيد في ارتفاعه عن برج القاهرة بـ6 أمتار، أى ما يوازى دورين كاملين، ويضم فنادق وشركات وسينمات ومقرات إدارية ومولات، ولضخامة المبنى الذي يضم ثلاثة أبراج عرض رجل الأعمال تغيير شبكات المرافق من كهرباء ومياه وصرف صحى للمنطقة كلها على نفقته الخاصة حتى لا تتأثر شبكات المنطقة بالمبنى الجديد.
ناقش الحضور العرض بإهتمام لافت للنظر وانتهى إلى صدور الموافقة المبدئية وإحالة الأمر لرئاسة مجلس الوزراء للموافقة على ارتفاع المبنى بحكم صلاحية مجلس الوزراء.
وجاءت بالفعل الموافقة مباشرة لنعرف بعدها اسم صاحب هذا المبنى وهو المهندس نجيب ساويرس الذي استحوذ في وقت قريب من هذا التوقيت على النصيب الأكبر من شركة موبينيل التى بثت خدمتها لأول مرة في مارس عام 1998. وتزامنت تلك الموافقة مع موافقة أخرى حصلت عليها السيدة يسرية لوزة، عضو مجلس الشورى، وهى والدة المهندس نجيب ساويرس على مساحة 25 فدانًا في منطقة الزرايب بالمقطم لتطوير مهنة جامعى القمامة.
كان آخر ما فكر فيه المحافظ عمر عبدالآخر هو تعيين مجموعة "ناضورجية" يجوبون شوارع العاصمة بالموتوسيكلات لمراقبة مخالفات المباني التى لم تنجح أجهزة الدولة في التصدي لها ومعها العشوائيات والتعديات على أملاك الدولة.
وعندما مرض المحافظ ونقلت له رغبة رئيس التحرير في إرسال بوكيه ورد له، انزعج المحافظ من تسرب خبر مرضه وطلب عدم نشره، ولا حتى إرسال بوكيهات الورد خوفًا أن يؤثر ذلك على منصبه، الذي فقده بالفعل في يوليو من عام 1997.
انطباع أى متابع لعمل المحافظ في تلك الفترة هو أننا نعيش في دولة راسخة يحكمها القانون وتديرها كفاءات على أعلى مستوى، ميزانية العاصمة السنوية لوحدها تتجاوز رقم الأربعة مليارات جنيه تنفق جميعها على حل المشاكل اليومية في الأحياء، يضاف إليها ما تنفذه الوزارات من مشروعات قومية، كالأنفاق والكباري وخطط الإسكان القومي وغيرها، ومع ذلك المحصلة كانت صفرًا في النهاية، فلم يشعر المواطن القاهرى بالرضا أبدًا، فلم تحل له أزمة، الزحام كان يزداد سوءًا والعشوائيات تزداد خطورة، وظلت القاهرة المدينة المزدحمة بمشاكلها المعروفة لسنوات طويلة.. للحديث بقية.