حكاية جديدة عن "الخواجة بيجو"
أمّا دي حكاية! …
الخواجة بيجو مسفريتو كطليانو باسطاولو بولو بينو فينو، أو باختصار الخواجة بيجو، هل يوجد أحد لا يعرف هذه الشخصية الكوميدية؟! نعم، هناك الملايين لا يعرفونها! أولئك الذين ولدوا في نهاية السبعينيات وما تلاها من أعوام شهدت أفول فؤاد راتب هذا النجم الكوميدي، الذي شكل مع "أبو لمعة" ثنائيا من أشهر ثنائيات الفن المصري، قبل أن يختفي عن الأنظار ويتوارى منذ عام ١٩٦٨م. ومنذ ذلك الحين جاءت الثنائيات والثلاثيات الكوميدية تترى فأحالتهما إلى قسم الأرشيف وغطّاهما غبار النسيان.
ولد فؤاد راتب في الزقازيق عام ١٩٣٠م ومنذ عام ١٩٥٢م برز في شخصية الخواجة بيجو بلهجته المميّزة ولم يقدم غيرها طوال مسيرته الفنيّة حتى اختفاءه، هذا باختصار ما تقوله السردية المصرية المنتشرة، لكني سأسألكم؛ هل تعرفون المدعو فؤاد بن سعيد باشا؟! ألا تتذكرون هذا الاسم؟! القراء المصريون لن يعرفوه بالطبع لأن الممثل الذي قام بالدور توفي فنياً عام ١٩٦٨م، لكن أي قارئ خليجي سيضحك من فوره، لأن هذا الاسم هو اسم الشخصية التي لعبها فؤاد راتب عام ١٩٧٧م، في حلقتين ضمن ١٣ حلقة من المسلسل الكويتي "درب الزلق"، الذي سيكون منذ تلك اللحظة أشهر مسلسل خليجي عبر التاريخ ولا تزال حواراته محفوظة بالكامل لدى المتابعين حتى يومنا هذا.
في صغري لم أعرف الخواجة بيجو، وإن كان اسم أبو لمعة باق يتردد صداه ليدلّ على الكذاب حتى تلاشى. لذلك ظننت أن الخبير الذي دخل على شقة حسين بن عاقول في القاهرة ليعرض عليه شراء الأهرامات وأبو الهول ونقلهما إلى الكويت هو ممثل مصري والسلام. لكنني عرفت فيما بعد أنه الممثل فؤاد راتب الذي شارك إسماعيل يس في فيلمه إسماعيل يس في مستشفى المجانين، وعُرف قبلها عبر المسلسل الإذاعي الناجح "ساعة لقلبك"، وأنه كان نجمًا كوميديًا لا يشق له غبار.
"أمّا دي حكاية!" هذه الجملة ردّدها صديق مصري ممن عاصر فؤاد راتب في نسخته المصرية، واستغرب، رغم أنه أقام ردحا في الكويت وسمع بهذا المسلسل. أدرت له المشهد من "درب الزلق" فقال: "فعلا هو ده فؤاد راتب! إمتى ده؟!".
كيف صار هذا؟ ومتى؟ لنبدأ الحكاية؛ في نهاية الستينيات وفي أعقاب النكسة، قدم فؤاد راتب للعمل في الكويت. يروي الإعلامي الكويتي الراحل محمد السنعوسي وأحد مؤسسي تليفزيون الكويت في مذكراته، حكاية عن تخصيص إدارة المرور لوحة برقم مميز لسيارته، لكنه لم يكن يريدها: "وبينما كنت أفكر بكيفية التخلص منها، صادفت في المبنى المروري الفنان المصري المعروف فؤاد راتب المشهور بالخواجة بيجو، الذي كوّن ثنائيًا ناجحًا مع الفنان المصري المشهور "أبو لمعة" في المسلسل الإذاعي "ساعة لقلبك"، وكان قد حضر إلى الكويت ليعمل في التدريس". إذن جاء مدرّسا! ثم انتقل إلى شركة صناعة الكيماويات البترولية أو شركة الأسمدة كما كانت تسمى آنذاك وعمل في قسم العلاقات العامة. وبعدها جاءت لحظة "درب الزلق". فأستعين به في تجسيد شخصية فؤاد ابن سعيد باشا. اللافت أن هذه الشخصية المخادعة هي أقرب لشخصية زميله "أبولمعة" وقام بذلك الدور دون أي لمحة من لهجة الخواجة التي عرف بها، وأتقنها طوال مسيرته الفنيّة المصرية حتى ظن المصريون أن له أصولاً أوروبية. لاقى دوره الكويتي نجاحا أسطوريا إلى يومنا هذا، وقد أشاد الفنان الراحل سعيد صالح بهذا المسلسل في لقاء في نهاية السبعينيات مع الإعلامي الكويتي عبدالرحمن النجّار في برنامجه "شبكة التليفزيون" وقال ضمن ما قاله: "المفروض حسين وزملاؤه يعملوا اللي عليهم وييجو مصر، عايز نتفرج زي ما أنا اتفرجت واستمتعت على حسين، لازم الجمهور المصري يتفرج على حسين، حسين من أجود الممثلين الكوميديانات اللي موجودين في المنطقة العربية، جيد جدا، ممثل ممتاز..".
عندما عرفت كل ذلك، فهمت المشهد الذي يظهر به فؤاد راتب بدور فؤاد بن سعيد باشا؛ في الدقيقة ١١:٥٣ من الحلقة ١١ يرن الجرس، فتهرع الشغالة لفتح الباب وما أن يفتح، حتى يطل فؤاد راتب مع موسيقى تعبّر عن المفاجأة. سابقا ظننتها تحيل لمفاجأة ظهور شخصية جديدة من شخصيات المسلسل، لكنني عرفت من تتبّع السياق التاريخي للمسلسل الذي صوّر في عام ١٩٧٧م، أن هذه الموسيقى رسالة للمتفرّج الذي سيفاجأ بظهور هذا النجم المحبوب، والذي عرفه المشاهد الكويتي منذ عرفت الكويت الإذاعة والتلفزيون والسينما.
وبعد بحث وجدت لقاء أجرته الصحفيّة سماح مكّي مع زوجة الفنان الراحل عام ٢٠١١م في صحيفة النهار الكويتية، وجاءت فيه تفاصيل مكملة للصورة، تقول زوجته السيدة فتحيّة الصاوي إن زوجها محمد فؤاد أمين راتب كان عاشقا للتمثيل منذ الطفولة. وأنه بدأ منذ السابعة مع برنامج "بابا شارو" بأجر جنيه واحد. وتخرج فى كلية التجارة عام ١٩٤٩م وأنه شارك في تمثيل أدوار ضمن عروض مسرحية قصيرة على مسرح الريحاني، تسبق العرض المسرحي الرئيسي، وفي عرض من العروض شاهده الريحاني وضحك مطوّلا وقال له: يا جدع إنت مش بطال، خليك في التمثيل على طول. وبدأت علاقته بالفنان الكبير نجيب الريحاني وشاركه مسرحية "البيجامة الحمراء". وتحدثت زوجته عن وظائفه كمدير للعلاقات العامة في اتحاد الصناعات، ثم الهيئة الآسيوية الأفريقية للشئون الاقتصادية. ثم أكملت الصاوي عن سفره إلى الكويت وبعدما انتهت إعارته عام ١٩٧٢م التحق بعدها بالتلفزيون الكويتي واجتهد في تحضير المؤتمرات وبرامج الأعياد الوطنية، وعمل في قسم المنوعات الذي كان يرأسه المخرج القدير فيصل الضاحي، ثم تردّت صحته مع ارتفاع الضغط حتى أصيب بشلل نصفي عام ١٩٧٥م، ونقل للمستشفى الأميري، وكان يزوره دوماً كما تقول السيدة الصاوي؛ محمد السنعوسي وكيل وزارة الإعلام. ثم خرج بعدما تحسّن وظل التلفزيون الكويتي متمسكاً به وقدم مسلسل "درب الزلق". وبعدها بثلاثة أعوام عاد وعائلته إلى القاهرة. وفي ١٨ يونيو عام ١٩٨٦م كان الفنان فؤاد راتب، أمام التلفاز يتابع مباريات كأس العالم في منزل حماته في العجوزة، شعر بتعب وفاجأته أزمة قلبية، فارق على إثرها الحياة.
وهكذا، أتمنى أن أكون أكملت الجزء المفقود من السردية المصرية والسردية الخليجية عن هذا الفنان، علّ القارئ المصري يبحث عن دور الفنان القدير في مسلسل "درب الزلق"، وأن يستعيد القارئ الخليجي أدوار الخواجة بيجو وأبولمعة. رحم الله الخواجة بيجو مسفريتو كطليانو باسطاولو بولو بينو فينو، أو فؤاد بن سعيد باشا، رحم الله الفنان القدير فؤاد راتب.
