الحوار بين التعليم والسكان
تتأثر العملية التعليمية بلاشك بمعدل النمو السكانى.. فكلما زاد عدد السكان قلت جودة المنظومة التعليمية التى يتم تقديمها لهم، حيث لا تتمكن المعاهد التعليمية بجميع مراحلها من ملاحقة تلك الأعداد المتزايدة للسكان، وهنا تكمن الإشكالية التى تؤثر بطبيعة الحال على اللحاق بركب التطور العلمى الذى يشهده العالم حولنا.
ومن هذا المنطلق فإن الربط بين الموضوعين فى المحور الاجتماعى بالحوار الوطنى جاء موفقًا للغاية، حيث ترتبط نتائج معالجة النقص والسلبيات فى كليهما بالطرف الآخر.. فالمشاركون فى لجنة التعليم يطالبون بجودته وإنهاء تكدس الفصول والاهتمام بالمعلم.. والمشاركون فى لجنة السكان والقضية السكانية يطالبون بالسيطرة على الزيادة السكانية، لدرجة أن البعض أشار إلى أن المشكلة السكانية أخطر من الإرهاب، وأهم من الإصلاح الاقتصادى.
فى اعتقادى أن وضع رؤية شاملة للتعليم تتضمن جميع جوانب العملية التعليمية، سواء المناهج الدراسية أو المدرسون أو طرق التدريس وإدارة المنظومة ككل قد يكون أسهل إلى حد ما من مواجهة المشكلة السكانية.. ولعل تدخل الرئيس عبدالفتاح السيسى شخصيًا فى هذا الملف، عندما أحال مشروع القانون الذى عُرض على سيادته من مجلس الوزراء بشأن إنشاء المجلس الوطنى الأعلى للتعليم والتدريب إلى لجنة التعليم بالحوار الوطنى هو أكبر دليل على أن هناك إرادة سياسية داعمة؛ لتطوير المنظومة التعليمية من أساسها، حيث يهدف هذا المجلس إلى توحيد سياسات التعليم والتدريب بجميع أنواعه وجميع مراحله، وتحقيق التكامل بينها والإشراف على تنفيذها لربط مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل المحلية والدولية، ويقوم بإعداد صياغة الاستراتيجية الوطنية للتعليم والتدريب بجميع أنواعه وجميع مراحله للاستفادة من تحليل قواعد البيانات المعلوماتية لسوق العمل فى رسم السياسات الموحدة للتعليم، ووضع آليات متابعة وتنفيذ هذه الاستراتيجية مع تحسين الصورة النمطية والمكانة المجتمعية للتعليم الفنى.. ومن الواضح أن الاهتمام الذى أولاه السيد الرئيس لهذا الملف جاء متوافقًا مع رؤية معظم من تحدثوا عن ملف التعليم فى الحوار الوطنى، ودفع لجنة التعليم إلى تخصيص جلسة نقاشية مستقلة لعرض مشروع القانون الذى وافق عليه جميع الحضور، وبالتالى سوف يرفع إلى البرلمان للتصويت عليه وأخذ الموافقة بشأنه.
وتكمن الصعوبة من وجهة نظرى فى هذا المحور فى المشكلة السكانية؛ لأنها بلا شك من المشكلات الأكثر تعقيدًا، لأنها تتعلق بثقافة مجتمع وفهم خاطئ للدين، وتطبيق أكثر خطأ لمفاهيم وموروثات عقيمة عفا عليها الزمن.. ويكفى هنا أن نشير إلى أن هناك مولودًا فى مصر كل ١٤٫٤ ثانية، يعنى ٥٩٨٢ مولودًا يوميًا، وذلك خلال عام ٢٠٢٢، حيث تمت ولادة ٢.١٨٣ مليون مولود خلال تلك السنة.. وتأتى مصر الأولى عربيًا والثالثة إفريقيا و١٤ عالميًا فى زيادة نسبة عدد السكان.
إن الأزمة السكانية فى مصر تعتبر وبحق «قضية شعب» نحتاج فيها إلى مواجهتها بالوعى وتغيير المفاهيم المغلوطة والسلوكيات الإنجابية، وتنفيذ الاستراتيجيات المتفق عليها منذ سنوات، حيث إن القضية السكانية كانت محل اهتمام جميع الأنظمة التى تولت إدارة البلاد حتى يومنا هذا، إلا أن وسائل وخطوات المواجهة كانت تصطدم بالعديد من العقبات، منها الجهل وسوء التخطيط العمرانى والسكانى والزواج المبكر والعادات والتقاليد البالية وعدم التوعية الصحيحة، إعلاميًا ودينيًا.. إلخ.
وقد أحسن القائمون على هذا الملف فى انتقاء المتحدثين عن هذه المشكلة بشكل موضوعى وموثق حتى يمكن «تشخيص الحالة السكانية فى مصر وتحسين الخصائص السكانية ومدى ما تمثله الزيادة السكانية من إشكالية حقيقية لمصر»، حيث تمت مناقشة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمشكلة وقضايا الطفولة والإعاقة وتفعيل دور المجلس القومى للسكان لكى يستعيد دوره فى مواجهة تلك القضية، سواء فيما يتعلق بأعمال المتابعة أو التربية السكانية والتثقيف السكانى.
إن الحديث عن المشكلة السكانية لا ينتهى، لأنها بالفعل مشكلة وطن يعانى من أزمات اقتصادية تجعلنا فى أشد الحاجة إلى وضع حلول يمكن تنفيذها، خاصة أن هناك، كما أشرنا، إرادة سياسية قوية تدعم ذلك، إلا أن هذا التنفيذ مرتبط بإرادة مماثلة من جميع الهيئات المختصة، سواء على المستوى الوزارى أو الإدارى أو الإعلامى وأيضًا الدينى.
إن القضية السكانية يجب أن تكون محل اهتمام منظمات المجتمع المدنى أيضًا والجمعيات الخيرية والأهلية التابعة لوزارة التضامن الاجتماعى، وبالتالى فإنه من اللازم تأهيل تلك الجمعيات والقائمين عليها للتعاون مع مؤسسات الدولة فى هذا الاتجاه، ويكفى هنا أن نشير إلى أنه من بين ٣٥ ألف جمعية هناك ٤٠٠ جمعية فقط مؤهلة لذلك، وهنا يظهر ضرورة الاهتمام بتلك الجمعيات للمساهمة فى المنظومة السكانية التى تحاول الدولة السيطرة عليها.
كان من أبرز التوصيات التى خرجت من جلسة القضية السكانية فى الحوار الوطنى.. رفع سن الزواج إلى ١٨ عامًا مع تجريم الزواج المبكر، وتمكين المرأة، اقتصاديًا واجتماعيًا، وتقليل التسرب من التعليم، وضرورة إدخال ثقافة الصحة والسكان فى المناهج التعليمية، وتدعيم ذلك بخطاب دينى معتدل بشأن قضية الإنجاب، وضرورة العمل على تنظيم تلك العملية.. هذا بالإضافة إلى وسائل توعية إلى الفئات المستهدفة فى الريف والمناطق النائية تخاطب أهلها على قدر عقولهم ومداركهم وثقافتهم، مع تبنى مشروعات قوانين لإيجاد حلول غير تقليدية للمواجهة العاجلة للزيادة السكانية، ودراسة إعادة توطين الشباب المتزوج حديثًا فى المجتمعات والمدن السكنية الجديدة، بما يشكل إعادة خريطة التوزيع السكانى بقدر الإمكان على مستوى الجمهورية.
أحسب أن قضيتى التعليم والسكان لن تجدا حلًا سريعًا من خلال جلسة أو اثنتين من جلسات الحوار الوطنى، فهما من المحاور التى يجب أن تناقش كثيرًا وتطرح خلالهما أفكار غير تقليدية من خلال مناقشات مجتمعية مثمرة، تتحقق من خلالها ما نصبو إليه من تحقيق مستقبل مشرق للأجيال القادمة تنعم فيه بالتعليم المتميز والصحة الجيدة وفرص العمل الجيدة، وهو ما سوف ينعكس على الوطن بالإيجابية والازدهار.
وتحيا مصر.