المصرى الغنى والمصرى الفقير
على هامش الأزمة الاقتصادية فى مصر والعالم، ينبغى أن يراجع بعض المصريين أنفسهم فى طريقة إنفاقهم.. من حسن الحظ أننا شعب كبير جدًا، وهذا يجعل هناك تنوعًا فى انتماءات المصريين الاجتماعية.. لدينا ملايين الفقراء ولكن لدينا ملايين الأغنياء أيضًا.. نحن مئة وعشرة ملايين مصرى، وبالتالى بيننا ملايين من الأثرياء والمستورين ومتوسطى الحال.. لو لم يكن الأمر هكذا لما أقدمت كل الشركات العالمية على افتتاح فروع لها فى مصر وبكثافة كبيرة.. محال ملابس ومطاعم ومقاهٍ وشركات أجهزة منزلية وسلع غذائية.. إلخ.. لماذا؟ لأن مصر سوق كبيرة عملاقة وهذه ميزة لا يملكها غيرنا.. لو افترضنا أن عدد الميسورين فى مصر عشرة بالمئة فقط، فهذا يعنى أنهم تقريبًا أحد عشر مليون شخص.. إنه عدد يفوق تعداد بعض دول الخليج الشقيقة مجتمعة مع بعضها.. إننا أثرياء فعلًا ولكننا لا نجيد استثمار ثرواتنا.. بعض الإعلاميين حاول أن يقول إن الأثرياء فى مصر هم الذين يعلمون أبناءهم فى مدارس اللغات فقط، وهؤلاء نسبتهم أربعة فى المئة فقط من طلاب مصر! هذا شخص ساذج ولا يعرف أى شىء عن مصر.. ماذا عن الأثرياء غير المتعلمين الذين لا يعلمون أبناءهم تعليمًا أجنبيًا؟ ماذا عن تجار الأزهر؟ العتبة؟ الموسكى؟ الرويعى؟ كبار المزارعين؟ تجار المواشى؟ تجار اللحوم؟ مقاولى البناء؟.. إلخ، كل هؤلاء أثرياء بكل تأكيد وإلا لما احتلت مصر مؤشرًا متقدمًا فى ترتيب ثروات الدول فى الشرق الأوسط.. المفاجأة أن الأثرياء التقليديين وغير المتعلمين لدينا يتمتعون بوعى اقتصادى أكبر بكثير من الطبقة الوسطى المتعلمة.. لماذا؟ لأنهم يحولون دخلهم إلى أصول اقتصادية، بينما يحول المتعلمون دخلهم إلى شاليه فى الساحل وأقساط سيارة ومنزل جديد كل عدة سنوات.. لذلك يظلون فقراء للأبد.. هذه الفكرة ليست فكرتى لكنها فكرة الاقتصادى الأمريكى روبرت تى كيوساكى مؤلف كتاب «الأب الغنى والأب الفقير» الذى وصف بأنه الأكثر مبيعًا فى العالم خلال العام الماضى.. يقارن المؤلف بين حياة والده الموظف الكبير «الأب الفقير» وبين حياة والد صديقه «الأب الغنى» الذى صار مليونيرًا على مدى الأيام.. يقول ببساطة إن الأب الفقير يحصل على مرتب كبير لكنه يكبل نفسه بقيود الاستهلاك طوال الوقت.. كلما زاد راتبه سعى لتغيير منزله وسيارته ودفع أقساطًا جديدة للبنك.. لذلك يظل فقيرًا طوال الوقت رغم أن دخله كبير.. أما الأب الغنى فهو أب واع يحول دخله إلى أصل اقتصادى يحقق له الربح.. ومن عائد هذا الربح يشترى المنزل ويظل الأصل الاقتصادى يدر له أرباحًا أخرى طوال العمر.. الأب الفقير فى مصر هو الطبيب والمهندس والمحامى والإعلامى الذى يظل طوال عمره يلهث فى نصف حياته ليشترى شقة تمليك فى الهرم مثلًا.. ثم يظل نصف حياته الثانى يلهث ليشترى شقة فى التجمع.. ثم يلهث فى الربع الأخير من حياته ليشترى شاليهًا فى الساحل.. ثم يموت ويترك كل هذا لأبنائه دون أن يستفيد أحد سوى شركات العقارات.. هذه حياة بعض أبناء الطبقة الوسطى فى مصر وليست حياة كل المصريين بالطبع.. لكن المفارقة أن الطبقة الوسطى هى المنوط بها قيادة المجتمع ودفعه للأمام باعتبارها الأكثر تعليمًا.. المفارقة أن الأب الغنى فى حالتنا فى مصر هو غالبًا المستثمر غير المتعلم.. هو تبّاع السيارة الذى يدخر حتى يصير لديه أسطول سيارات نقل.. وصبى الورشة الماهر الذى يصبح صاحب ورشة بعد قليل، وعامل البناء الصعيدى الذى يصبح مقاولًا بعد سنوات.. وهذه كلها نماذج كانت موجودة فى الماضى القريب وإن كانت تراجعت لحساب المواطن التقليدى عديم المهارات الذى يكتفى بقيادة التوك توك لتدبير نفقات يومه.. يقول الكتاب إنه كلما استغنى الأب الفقير أو ممثل الطبقة الوسطى عن الاستهلاك أصبحت فرصه فى الثراء أكثر.. وكلما تمسك بالاستهلاك أصبح تدهور وضعه المادى حتميًا رغم أنه يبدو أكثر استهلاكًا لأنه يقتنى بيتًا وسيارة أكبر ويغرق فى دفع أقساطهما ولا يضيف أصولًا جديدة للمجتمع.. للإنصاف طبعًا فإن فرص إضافة الأصول للمواطن العادى فى أمريكا أكثر من الفرص الشبيهة فى مصر.. فالبورصة هناك مختلفة عن هنا وبيئة الأعمال مختلفة.. لكن مصر أيضًا أرض فرص واعدة لمن ينظر بعمق.. ما يطرحه «الأب الغنى والأب الفقير» شديد الصلة بحياتنا اليومية وواقعنا الاقتصادى ومعاناتنا اليومية وطريقة ترتيب أولوياتنا.. وأظن أن على إعلامنا أن يفسح مجالًا لمناقشة مثل هذه القضايا وتغيير طريقة تفكير المواطنين إزاء الاقتصاد وتنمية المهارات المالية والاستثمارية للمواطن العادى المتعلم.. ربما استطعنا أن نخرج من الدائرة المغلقة وأوجدنا مجالًا آخر بعيدًا عن برامج الطبخ والكرة، وغيرهما من مجالات باتت معروفة ومكررة.. ربما نربح من التفكير بطريقة جديدة.. ربما.