موقعة اليوسفى
كتابة الحكايات مهمة شاقة وممتعة فى الوقت نفسه، أنت فى حاجة إليها، وأيضًا الذى يصغى إليك، لا تعرف لماذا؟!، فى فترات متقطعة من العمر تنتابنى حالة من الحكى المتواصل، غالبًا عندما يكون الشعر عزيزًا، ويتدلل علىّ، سنة ١٩٩٦ بدأت فى كتابة حكايات بسيطة فى «الدستور» عن بشر عرفتهم فى تجاعيد القاهرة، كتابة محبة، لا مغزى من ورائها غير الحكاية الخام التى لا تدعى أكثر مما هى عليه.
كل ما يهمنى الحكاية التى يعرف البعض بطلها، ولكنى نسبتها لغيره حتى لا يغضب الأبناء!، الراحل الكبير الدكتور عبدالمنعم تليمة قال لى: «فكر وأنت تواصل الكتابة أنك ستنشر هذه الحكايات فى كتاب»، وهو ما حدث بعد ذلك فى كتاب «الجو العام»، كنت أنشر حكاية كل أسبوع، وكانت شهيتى مفتوحة للكتابة التى لا تندرج تحت أى مسمى، فهى ليست قصصًا ولا هى مقالات ولا هى خواطر، هى كتابة فى المحبة، تتواصل بها مع رجل يجلس إلى جوارك فى أتوبيس نقل عام، أو مدرجات درجة ثالثة فى ملعب كرة قدم، توجد حكايات كثيرة لم تُنشر.
وبين الحين والآخر تطل واحدة وأنا أقلب فى أوراقى، مثل هذه التى لم تُنشر فى «الدستور» ولا فى الكتاب:
«أعرف أشرف وسعيد منذ سنوات بعيدة، جمعتنا ليالٍ رحبة فى أماكن دافئة معبأة ببخور الصالحين والموسيقى، لا علاقة لهما بالمثقفين، وتشعر، عندما يتم الحديث فى موضوع ثقافى فى وجودهما، أنهما يتأهبان للرحيل، كنا نلتقى مصادفة، دائمًا مصادفة، وفى الجمالية، وفى الشتاء، وأشعر بفرح حقيقى عندما أقابلهما، وربما (نتنقل) فى ليل القاهرة وسط النكات، النكات التى توجع البطن، سيارة أشرف فيات ١٢٧، لا يوجد بها كاسيت (دائمًا سيتم تركيبه يوم الإثنين ولا يتم تركيبه).
أشرف يشجع الأهلى ويذهب خلفه فى أى مكان، سعيد لا يشجع الزمالك ولكنه يكره الأهلى، ويعتبره (مبوظ البلد)، سعيد يحب هانى شاكر لأسباب تخصه وحده، ولديه إحساس بالسخط تجاه كل شىء، من النوع الذى يوحى إليك أنه يعانى من إمساك مزمن، حتى وهو مبتسم، وأشرف لا يستطيع أن يتحرك بدونه، رغم الخلافات (الجوهرية) بينهما، سعيد يحب مبارك وكان يعتبره (رمانة ميزان)، وأشرف يقول له عندما يراه يتحدث فى السياسة (يا هيكل يا هيكل)، أشرف يمتلك مكتبة للأدوات المدرسية فى كوبرى القبة، بجوار بيته، وعنده ثلاثة أبناء أكبرهم كان فى ٢٠٠٥ فى (ثانية ثانوى).
سعيد أيامها كان فى الخمسين ولم يتزوج، ويعيش فى شقة ضيقة وجميلة فى كوبرى القبة أيضًا، ويتاجر فى (أسنسات العطور)، رأى كل واحد فى الآخر سلبى تمامًا، ومع هذا يلتقيان منذ منتصف الثمانينيات يوميًا بعد العاشرة مساء، سعيد بخيل، وأشرف ليس كريمًا، مشكلة سعيد كل ليلة هى: ماذا يأكل؟، هو يعرف مطاعم القاهرة ولا يدفع بقشيشًا، أشرف يأكل فى بيته، ولكنه ينتظر سعيد إلى أن يفرغ من تناول طعامه، ينتظره دائمًا فى السيارة، ودرب نفسه على تأخر صديقه المقصود، فى بداية ٢٠٠٦ بدأت العلاقة بينهما تتوتر، قال لى أشرف: (إحنا عرفنا كتالوج بعض وما ينفعشى اللى عمله).
وحكى لى سبب الأزمة، سعيد له قريب (من طنطا) يعيش بمفرده فى شقة عند جامع عمرو، شقة معقولة، بها بلكونة واسعة تستغل فى الصيف، وقعدة شتوية تسع ستة أشخاص، يذهب الصديقان إليها فى العامين الأخيرين، (كل واحد حاجته معاه)، قريب سعيد صامت معظم الوقت، ولكنه كثير الحركة، عنده (دش) ويحب أفلام الأبيض والأسود، ويفرض ذوقه على زواره، السهر عنده لا يكلف كثيرًا، ينزل الصديقان فى الثانية أو الثالثة صباحًا، يقطعان ميدان أبوالسعود ويدخلان شارع حسن الأنور، يتوقفان عند فكهانى يعرفانه، يشتريان منه اليوسفى (اليوسف أفندى)، أشرف يقوم بانتقاء ما يريد (حبة حبة)، غالبًا ما يكون مشعلًا نارًا قرب الفرش، تظهر عليه علامات السخط، لأنه سيدخل فى معركة (فصال) بعد قليل، ينجح أشرف فى تخفيض السعر كل مرة، وسعيد لا علاقة له بالموضوع، وبعد أن ينتهى أشرف يدخل صديقه على الفكهانى مثل استيفان روستى (أشرف هو الذى يقول): (أنا عايز زيه، وانت اللى هتنقى.. وبالفلوس اللى تقول عليها)، الفكهانى أطلق عليه لقب (البرنس)، ويقول له وهو يركب السيارة وبصوت عالٍ: (يا ريت كل الزباين زيك)، يقطعان شارع الجيارة وهما صامتان، ويتم وضع اليوسفى على الكنبة الخلفية.. إلى أن يصل أشرف إلى منزل سعيد، الذى يمد يده ويأخذ الكيس الذى اشتراه (ونقاه) صديقه.
زوجة أشرف كل مرة توبخه لأنه لا يفهم فى الفاكهة وأن الفكهانى بيضحك عليه، وألمحت فى المرة الأخيرة إلى علاقة غير طبيعية بينهما، أشرف قال لى- والدموع معلقة فى عينيه- إنه فعلها معه ثلاث مرات فى أسبوع.. وإنه ماينفعشى نعرف بعض».