مدير القلوب.. الإنسانية تخسر الأب وليم سيدهم
حين نحاول أن نقدم الأب وليم سيدهم، الذى رحل عن عالمنا منذ يومين مخلّفًا ألمًا كبيرًا وإحساسًا بالفقد والخسارة على المستويين الثقافى والإنسانى، فإننا لا نستطيع اختزاله فى كونه أحد الآباء اليسوعيين، ولا كمعلم ومربٍ فى مدارس الجزويت، تتلمذت على يديه أجيال، ولا كفيلسوف درس الفلسفة فى جامعة القاهرة وله عدد من الكتب فى تحرير اللاهوت وقبول الآخر، ولا كمدير ثقافى «رئيس مجلس إدارة جمعية النهضة العلمية والثقافية- الجزويت»، فقد ترأس مؤسسة قدمت للثقافة المصرية ما لم يستطع العديد من المؤسسات الحكومية المعنية بالثقافة تقديمه، الصفة الأهم والأبرز التى يمكننا أن نقدم بها الأب وليم هى المحب والعاشق للوطن وللفنون والحرية والجمال والفلسفة، وكأنه عُمّد بالحب، كان الحب دافعه لكل شىء، يفعل بدافع الحب، يعطى بدافع الحب، يدير بالحب «هذا التعبير الذى يعتبر وفقًا لعلوم الإدارة تعبيرًا سلبيًا»، أثبت الأب وليم أنه منهج فعال وعملى ومؤثر أكثر من أى منهج سواه، فحبًا فى السينما يدعم مشروع مدرسة للسينما يتخرج فيها أجيال من الموهوبين الذين أثروا الصناعة، وحبًا فى الرسم يدعم مدرسة الرسوم المتحركة التى أسهمت فى تطوير هذا الفن فى مصر، وحبًا فى المسرح يفتح مدرسة ناس لفنون المسرح الاجتماعى، ليقدم فنانين يخرجون بالمسرح خارج الفضاءات التقليدية إلى الكفور والنجوع والشوارع، وبالحب يفتح مسرح الجزويت لتجارب الشباب بإيجار زهيد أو دون إيجار، وفقًا لظروف الفرقة وإيمانه برسالتها، لذا حين احترق المسرح تجمع الكل بدافع الحب أيضًا يحاولون تقديم ما يقدرون عليه لاستعادته.
لقد استطاع الأب وليم، عبر تلك المدارس التى تعمل فى مسارات متوازية فى جزويت القاهرة، أن يجعل الجزويت منارة حقيقية للثقافة والفنون ومعبرًا لنقل الخبرات بين الأجيال، حيث قبل أصحاب الخبرات فى مجالات المسرح والسينما والفنون التشكيلية العمل معه لقاء مبالغ هزيلة بالحب.
الأب وليم الذى دفعه حب الوطن ووعيه لرفض تمويلات ودعم بأموال طائلة من الجهات التى كان يتخوف من أجندتها، فقط كان يقبل الجهات الموثوقة غير المغرضة التى تتلاقى مصلحتها مع مصلحة الثقافة والفنون الوطنية، وكان يرهق كل من حوله كثيرًا فى مسألة الاستوثاق من جهات الدعم وأجندتها، فى المقابل كان يعطى كل ما لديه، ولو لم تسمح ميزانية الجمعية كان يعطى من جيبه الخاص، وكان ينفق وقتًا كبيرًا ليقنع مجلس إدارة الجمعية التى كان مؤسسوها ينحازون للتعليم أكثر من الثقافة والفن كوسيلة للتغيير، فيبذل الوقت والجهد لإقناعهم وبحب أيضًا بأن التعليم لن يجدى دون الثقافة، وكثيرًا ما دفع الجمعية، بميزانيتها الضعيفة، لدعم العديد من الفعاليات التى تقدم بالمحافظات خاصة تلك التى تستهدف المناطق النائية والبعيدة، ويا حبذا لو فى صعيد مصر الذى يعشقه، ليس فقط حبًا فى المسرح والصعيد ولكن حبًا فى الوطن، حيث كان يدرك أن الثقافة هى حائط الصد فى مواجهة الإرهاب والتطرف والمخدرات وأمراض السوشيال ميديا، ومن هذا المنطلق أيضًا منح الأب وليم للشباب وأصحاب المبادرات فرصًا للحوار والدعم والتدرب دون وصاية، حيث كان قانون العطاء عنده بمرجعية إنسانية صرفة تقدر الإنسان وتحترم حقه فى الحياة والثقافة والفنون.
والحب هنا ليس مقصود به ذلك الحب المجانى الفارغ من المعنى، ولكن الحب المرتبط بالإيمان، أن ينطلق حبك لكل شىء من إيمانك به، أن تحب الفن والثقافة والجمال لأنك مؤمن بقدرتها ودورها فى التغيير، أن تحب الناس لأنك مؤمن بالإنسان، مؤمن بقيمته وإرادته وقدرته على صنع الجمال والحب.
وحين يلمع الحب فى قلب إنسان فإن الحياة لن تنطفئ به أبدًا، لذا سيظل الأب وليم باقيًا حيًا فى قلوبنا جميعًا، وسيظل النموذج الإدارى والجمالى الذى قدمه الأب وليم فى إدارة جزويت القاهرة نموذجًا يجب أن يُدرس ويتم فهمه ومحاكاته، فلربما صارت الثقافة المصرية فى حال أفضل، حين تدرك فعل الثقافة من أين ينبع ولمن يوجه، وحين تعى استحقاقه للإنسان المصرى صانع الجمال والحب.