حالة حوار
أهم ما فى انطلاق جلسات الحوار الوطنى ليست إجراءات الجلسة والجلسات التالية لها رغم أهمية الإجراءات، وليست التوصيات التى ستتوصل لها اللجان المختلفة رغم الأهمية البالغة للتوصيات.. وليست التصريحات والكتابات التى يبدى فيها السياسيون والمختصون حماسهم للحوار وفوائده عن حق واقتناع.. كل هذا مهم جدًا ولكنه ليس أهم ما فى الحوار.. أهم ما فى الحوار هو أن يجعل المجتمع كله يدخل فى «حالة حوار».. الحالة شىء ممتد ومستمر وعابر للأشكال وللإجراءات والترتيبات، وهو أقرب إلى الروح التى تسرى فى جسد المجتمع فتستبدل الخصومة بالحوار والقطيعة بالنقاش الممتد وإعراض المختلفين عن بعضهم البعض بإقبالهم على بعضهم البعض والإحساس بالارتياب من الخصم السياسى إلى الإحساس بالاطمئنان لدوافع هذا الخصم ومقاصده من الخلاف.. أظن أن أولى جلسات الحوار الوطنى فى المحور السياسى يوم الأحد الماضى قد حملت بشائر هذه الحالة التى قلنا إنها أكبر من الإجراءات.. فقد عبر المختلفون عن آرائهم بشكل علمى ومنضبط، وطرح كل طرف رأيه دون تسفيه من رأى الطرف الآخر.. وقد كان الموضوع هو المفاضلة بين القائمة النسبية والقائمة المطلقة فى انتخابات مجلس النواب.. ودون تعقيدات فإن القائمة النسبية تسمح بالتمثيل فى المجلس للأحزاب الصغيرة وقليلة الجماهيرية، فى حين أن القائمة المطلقة لا تسمح بهذا.. وقد طرح كل طرف وجهة نظره.. هناك من يرى أن وجود أطياف متعددة ممثلة فى المجلس يضيف له تنوعًا ولا يخصم من قوة الأغلبية، وبالتالى فإن الأخذ بالقائمة النسبية يؤدى لمزيد من التعدد.. وهناك على الجانب الآخر من يرى أن القائمة النسبية تشجع الأحزاب الصغيرة على مزيد من الكسل وعدم بذل الجهد لتوسيع دائرة جماهيرها.. وهناك من يرى أنها تنطوى على مخالفة قانونية أو دستورية... إلخ.. ورغم أننى من الذين يشكون فى جدوى الانتخابات دون تعليم كافٍ وأرى أن جميع مجالسنا الانتخابية منذ عهد الخديو إسماعيل كانت تعانى من مشكلة ما.. إلا أننى سعدت بالحوار الذى اجتذبنى موضوعه.. وأضاف لى معلومات جديدة فى موضوع كنت أظنه جافًا أو معقدًا بشكل ما.. وأكثر ما أسعدنى أن الحوار كان حوارًا بين مواطنين مصريين وسياسيين مصريين.. وأنه بعد عام من التحضير الجاد اقتنع الجميع أنهم مقبلون على حوار مجتمعى لا على مفاوضات مع الدولة، كما ظن البعض فى بداية الدعوة للحوار.. والفارق أن الحوار يكون بين مكونات مختلفة.. مواطنين وسياسيين ومثقفين وشخصيات عامة.. أما المفاوضات فهى بين طرفين ولها مجالات أخرى بعيدة تمامًا عن معنى الحوار.. وهكذا كان معظم الحوار بالأمس بين ممثلى أحزاب الأغلبية أو المؤيدين للدولة، وبين الأحزاب المعارضة الأصغر من حيث الكتل التى تؤيدها.. وأظنه كان حوارًا متحضرًا وصحيًا وأفاد العلاقة بين الطرفين من حيث المبدأ، كما ستفيدها الجولات المقبلة من الحوار.. تبقى ملاحظة شكلية أقولها وأجرى على الله.. وهى أن اعتقادى الخاص الذى لا أريد منه سوى وجه الوطن، هو أن مجلس الأمناء ينبغى أن يكون محايدًا فيما يخص القضايا المطروحة للنقاش.. حتى لا يكون خصمًا وحكمًا، وقد يكون ما أقول مخالفًا للائحة عمل المجلس.. فيكون عذرى وقتها أننى جاهل بهذه اللائحة وأنال أجر المجتهد إذا أخطأ، أو قد يكون الأمر ليس كذلك فأكون قد نلت أجر المجتهد إذا أصاب.. ويبقى أن مكاسب الحوار قد بدأت بالفعل.. وأنه يؤسس فعلًا لمرحلة جديدة من العمل السياسى فى مصر نشارك جميعًا فى جنى ثمارها قريبًا بإذن الله.