عوض الصابرين فى مواسم الحصاد
لا شىء يعادل فرح الفلاحين فى الريف بأيام الحصاد.. ولا شىء يبقى فى ذاكرتى من أيامى الأولى أجمل من هذه الأيام.. الكل فى انتظار ساعة واحدة.. اللى عنده أرض واللى ما عندوش.. حتى الذين لم تكن لهم صلة مباشرة من أهل قريتى بالزراعة مثل الخياطين وأصحاب الدكاكين والحلاقين وحفارى القبور والرحل من الحلب والغجر ينتظرون الحصاد.
تغيرت الطقوس كثيرًا فى الخمسين سنة الماضية.. لم يعد الحصاد هو الموسم الوحيد لحصول الفلاحين على النقود.. فقبلها لم تكن هناك عملات بالمعنى المتداول حاليًا.. كان الجميع يتعاونون طوال العام فى أعمالهم بالمبادلة.. النهارده عندى وبكرة عندك.. فى العزيق والسقاية وتنقية الحشيش الضار.. حتى مصروف المدرسة اليومى لم يكن مالًا.. كان البيض هو العملة التى نشترى بها السكر والحلويات والأرز والكثير مما نحتاج فى البيوت.. فى موسم الحصاد يأتى التجار من بعيد بالورق.. وتنتفخ الجيوب بالمحافظ الجلدية ذات الرائحة النفاذة.. وتنتفض البيوت التى تستعد لزواج الأبناء.. فالمال.. من خير الأرض قد حضر.
جاءت السبعينيات وتدريجيًا اختفت طقوس كثيرة من طقوس الحصاد القديم.. القادمون من ليبيا والعراق أتوا بأموال كثيرة فى مواعيد مختلفة.. وأصبحت هناك جرارات قادمة من روسيا ومكن لجلب المياه من الترع أنهى قصة الشادوف والطمبوشة.. وبالمرة قصة النورج ولياليه... لم تعد هناك حاجة لمهن كثيرة ارتبطت بالحصاد.. الغرابيل التى كان يصنعها الغرابلى طيلة عام كامل ولها أنواع مختلفة لم يعد يطلبها أحد لا هى ولا صانعها الغرابلى.. المدراء والرجال الذين يفصلون القمح عن القش لم يعد لهم وجود أيضًا.. فقد دخلت آلات حديثة تؤدى نفس المهمة.. مهمة الرجل الذى كنا نسميه القراقرى.. وانتهت من حياة أطفالنا تلك الساعات المتعبة وسط غبار التبن لحظات جمعه وتحويله إلى الشون.. اختفى كل هؤلاء مع تفاصيل مبهجة من أيامنا الأولى. ولكن بقى موسم الحصاد هو الأهم فى كل بيت ريفى.
أول الأسبوع.. فى سوهاج.. منتصف جزيرة عامرة بالقمح.. غرق ما يزيد على مائة فدان.. فقد زاد منسوب النيل حتى تجاوز السنابل.. وكان منظرًا مدهشًا للكثيرين أن يذهب الزراع إلى النيل بالمراكب فى محاولة يائسة لجمع السنابل.. مجرد السنابل.. النيل الذى فاض على الأهل هناك بوفرة لم تكن متوقعة بشارة سعيدة للذين كانوا يتخوفون من أى تأثير يؤدى إلى نقص الماء جراء ما يحدث فى الجنوب البعيد.. الماء زاد حتى إنه أغرق الفدادين التى فى الجزيرة التى لم يتوقع زراعها تلك الزيادة وزرعوا أرضها بالقمح.. الذى دخل إلى بيوت أهلنا فى قرى كثيرة بكميات مفرحة تستريح لها النفوس فى نهاية عام أنهكت أسعار المبيدات والأعلاف والتقاوى ظهور الكثيرين منهم.. ولم يستطع أحدهم أن يتوقف.. فهم لا يعرفون سوى الأرض وحراجيها فى انتظار أن تجود فى لحظة الحصاد فتعوضهم وتملأ بيوتهم بالفرح قبل الحب.
المؤشرات الأولى لزكايب وأشولة الغيطان تقول إن إنتاج هذا العام من القمح طيب.. والأرقام المتداولة لسعر الإردب قد وصلت إلى ما يقرب من ألف ونصف من الجنيهات بزيادة كبيرة عن الموسم الماضى عليه... لكن الكثيرين أحجموا عن شراء التبن.. لعدم وجود مواشٍ.. فقد أدى ارتفاع سعر الأعلاف إلى تخلص الكثيرين من مواشيهم لعدم قدرتهم على توفير طعامها.. أحدهم قال لى إن البقرة الآن تحتاج لتسعة آلاف جنيه شهريًا مصاريف للطعام والدواء.. وهى تكلفة عالية جدًا.. الأهل هناك أرسلوا ما يعانون منه للنواب ولممثلى نقابة الفلاحين ويحلمون بأن ما أرسلوه يجد طريقًا لمناقشات اللجان المتخصصة فى الحوار الوطنى.. حتى تكتمل فرحتهم وهم فى موسم الفرح الذى ينتظرونه من العام إلى العام.
من يسير متجهًا من الجيزة إلى الصعيد عبر الطريق الغربى يدرك كم الإنجاز العظيم الذى حدث على الأرض بعد أن تحول الطريق الذى كان خرابة ومصيدة للموت إلى طريق عالمى.. ومن ينظر إلى جانبى الطريق على مدد الشوف يراقب حركة أهلنا فى الغيطان وهم يدرسون أقماحهم والفرح يتقافز من عيون أطفالهم حتى الجسر ويعبره ليدخل إلينا نحن العابرين فى سياراتهم.. يدرك أن عوض الله للصابرين الحالمين كبير.. وأن أيادينا التى تشق الجبال وتطلق الحب والماء فى رملها ليصبح الأخضر سيد ألوانها حتمًا ستجنى سنابل ما زرعت فى قادم الأيام وإن ذلك ليس ببعيد.