حكايات لم تروها شهرزاد.. زيارة جديدة لـ«ألف ليلة وليلة»: العالم ليس للرجال فقط!
«ألف ليلة وليلة».. هى مجموعة من الحكايات الشعبية التى لا مؤلف لها، تضمها جميعًا قصة إطار، وتدور حول «شهريار» الذى اكتشف خيانة زوجته، فقرر أن يتزوج كل ليلة امرأة ثم يقتلها، حتى تزوج «شهرزاد»، التى استطاعت أن تسيطر على «شهريار» وتوقف جموحه عبر الحكى اليومى، فكانت تحكى له كل ليلة حكاية شيّقة تتولد منها حكايات فرعية، ليظل شهريار متطلعًا لاستكمال الحكاية.
كان الحكى هنا بمثابة آلية للمقاومة ودفع الموت عن روحها.. لذا فقد ظلت شهرزاد تورطه كل ليلة فى حكاية جديدة حتى استطاعت عبر تلك الحكايات أن تقوّمه وترده إلى طبيعته الإنسانية وأن تملك قلبه.
وحكايات ألف ليلة وليلة هى جزء أصيل من وجدان الشعب المصرى بل إن شئنا الدقة وجدان العرب، وقد ازدادت جماهيريتها منذ انطلق البرنامج الإذاعى «ألف ليلة وليلة» بالإذاعة المصرية ١٩٥٦ من إخراج محمد محمود شعبان «بابا شارو»، كما عرف فى الإذاعة، وتأليف طاهر أبوفاشا، وبطولة زوزو نبيل «شهرزاد» وعبدالرحيم الزرقانى «شهريار» وعدد كبير من النجوم، شاركوا فى ٨٠٠ حلقة على مدى ٢٦ عامًا.
وقد تعددت المعالجات المختلفة التى قدمت لألف ليلة وليلة فى الدراما التليفزيونية عبر المسلسلات والفوازير المعروفة، كما استلهم العديد من كتّاب المسرح حكايات ألف ليلة وليلة مثل: «شهرزاد» و«شمس النهار» لتوفيق الحكيم، و«حلاق بغداد» و«الطيب والشرير والجميلة» لألفريد فرج، و«الملك هو الملك» لسعد الله ونوس... إلخ.
والحكى كفنٍ أدائى هو أحد أكثر الفنون اتصالًا بالمرأة، الأم والجدة هما «الحكاءات العظيمات»، وعلماء الأنثروبولوجى يطوفون العالم بحثًا عن الحكاءات العظيمات لجمع حكاياتهن، لذا ألهمت المرأة الذاكرة الشعبية فخصبتها وأنجبت شهرزاد، لكن الوعى الذكورى حمّل شهرزاد خطابًا وخيالًا ذكوريًا يكرس لصور سلبية للنساء، لذا تصدت النسويات لتحرير ألف ليلة وليلة من صورة المرأة السلبية.
منى إبراهيم:«أنا الحكاية» عالج الموضوعات بطريقة غير صادمة
عن المختلف الذى قدمته «أنا الحكاية» المنبثقة عن تجربة «قالت الراوية»، تقول الدكتورة منى إبراهيم، أستاذة الأدب الإنجليزى بكلية الآداب جامعة القاهرة: «حين انفصلنا عن (المرأة والذاكرة) و(قالت الراوية) احتفظنا بإعادة الكتابة ولكن ليس للتراث ولكن لروايات حديثة، فعملنا على (الحرام) ليوسف إدريس و(بين القصرين) و(بيجماليون)، ولم يكن شرطًا أن تكون صورة المرأة سيئة فى تلك الأعمال، فقط كنا نعيد كتابتها من منظور نسوى، مستلهمات مفردات الحكاية الأصلية، ثم اتجهنا بعدها إلى الكتابة الأصيلة لا إعادة الكتابة، وهذا أحد الفروق النوعية لتجربتنا فى (أنا الحكاية)».
وتضيف: «وهناك فرق آخر، ففى (قالت الراوية) بدأنا إعادة الكتابة كمشروع فكرى ثم فكرنا فى العرض المسرحى، لكن فى (أنا الحكاية) كان لدينا الوعى من البداية أننا نكتب للجمهور وأن الحكاية ستؤدى، فكنا نكتب عرضًا عن تيمة معينة، ويجب أن تكون الشخصيات حية والحكى مقطعًا بطريقة يسهل أداؤها، ونوع الموضوعات التى ستقدم للجمهور تعالج بطريقة غير صادمة، ورغم أن معظمنا نساء لكن حرصنا على أن ينضم إلينا رجال، شريطة أن تكون الكتابة والحكى من منظور نسوى، ومرجع ذلك أننا نرى أن النسوية نظرة إنسانية أكثر، فيها رفض للتنميط عمومًا وللأدوار المقولبة، سواء للنساء أو للرجال، ووفقًا لهذا الوعى فإننا جميعًا يمكن أن نكتب عن كل صنوف القهر المعرضين لها سواء كنا رجالًا أم نساء».
وفيما يخص العلاقة بالجمهور، تتابع منى إبراهيم: «بدأنا فى (أنا الحكاية)، حيث توقفت (قالت الراوية)، وكنا قد قطعنا شوطًا فى الاتصال بالجمهور، فبدأنا من حيث توقفت، وحرصنا من أجل هذا الجمهور الحاضر على أن يكون العرض فنيًا وقد ساعدتنا فى هذا إيمان صلاح الدين، رحمها الله، فكانت حريصة على أن يتضمن العرض بعض الكوميديا وألا يكون ثقيل الظل، وبعضًا من الموسيقى والأغانى ذات الصلة، وألا يكون صادمًا حتى على مستوى اللغة والموضوعات، ومرونة اللغة وقابليتها للاستخدام فى العرض أمر مهم لأن هناك قصصًا أدبية جميلة ولكنها تصلح للقراءة لا للحكى».
وعن صورة المرأة فى مسلسلات رمضان هذا العام وإلى أى مدى تعكس الدراما التليفزيونية صورة إيجابية عن النساء، تقول الدكتورة منى إبراهيم: «أنا شايفة إن شوية بشوية فيه وعى نسوى يقدم فى المسلسلات عامًا بعد عام، فمثلًا مسلسل (الهرشة السابعة) تميز فى تقديمه لهموم المرأة من وجهة نظر نسوية، ويمكن ذلك لأن الكاتبة هى مريم نعوم، وقدمت تفاصيل معاناتها اليومية مع المهام المنزلية مع دحض الصورة النمطية إن ست البيت دى ما بتعملش حاجة، فالمسلسل قدم كم الأعباء عليها وما تمثلها من ضغوط، وكذلك مسلسل (كامل العدد)».
وتضيف: «علينا أن نشير إلى أن هناك وعيًا جندريًا قويًا أيضًا فى أعمال مثل (عملة نادرة) و(تحت الوصاية)، وكذلك (حضرة العمدة)، رغم أنه اتسم بالمباشرة وعدم الفنية، والخطابية غالبة فيه جدًا، لكن يحسب لتلك التجارب أن هناك وعيًا جندريًا عند كتاب رجال أرادوا أن يقدموا عملًا نسويًا حتى لو صار أقل فنية بسبب المباشرة والخطابة».
هالة كمال: طرح نصوص إيجابية بديلة عبر «قالت الراوية»
فى التسعينيات، برزت تجربة مهمة تقاطعت مع فنون الحكى والمسرح، وكانت قد بدأت حينها مجموعة «المرأة والذاكرة»، التى أسستها دكتورة هدى الصدة، وحاولت كتابة التاريخ الاجتماعى «الشفهى» على نحو ينصف النساء، وخرجت منها مجموعة من الباحثات بتجربة «قالت الراوية»، التى ألهمت العديد من المبدعات/ين فيما بعد بمنهج جديد فى التعامل مع التراث.
بدأت «قالت الراوية» بمبادرة وتنسيق الدكتورة هالة كمال، أستاذة الأدب الإنجليزى بكلية الآداب، جامعة القاهرة، ومعها عدد من الباحثات والمبدعات الشابات البارزات فى ذلك الوقت معظمهن أساتذة للأدب ومبدعات، مثل: منى إبراهيم وسحر الموجى وسها رأفت ومنيرة سليمان ورانيا عبدالرحمن ونسمة إدريس وسمية رمضان، وانضم لهن بعدها داليا بسيونى وكارولين خليل ومنى البرنس وغيرهن، وتحمسن للفكرة من الجيل الأكبر من مجموعة «المرأة والذاكرة» كل من الدكتورة أميمة أبوبكر والدكتورة هدى الصدة، كونها متسقة مع طبيعة منهج المجموعة التى عملت على إعادة كتابة حكايات ألف ليلة وليلة من منظور نسوى، مع إبراز مكانة الحكى فى المجتمع المصرى ومكانة ألف ليلة وليلة وكونها رافدًا مهمًا للإلهام.
وفى محاولة لتبسيط مفهوم النسوية للقراءة وتصحيح الصورة النمطية المغلوطة عن النسوية والنسويات، تقول الدكتورة هالة كمال إن النسوية هى منظور أو العدسة التى نرى بها العالم، وهناك فرق بين النسوية والمنهج الجندرى، فالبحث الجندرى يهتم بتصوير وضع الرجال والنساء لكن المنهج النسوى يركز على وضع المرأة فقط، منطلقًا من فرضية أن هناك تمييزًا واقعًا ضد النساء.
وعن علاقة الحكى بالنساء تقول: «علاقة الحكى خصوصًا فى شكله الشعبى ترتبط بالنساء، وقد فسرها لنا الباحثون فى الفلكلور، فالحكى الشعبى له شكلان (الحكايات والسيرة)، الحكايات مكانها البيت ومضمونها كان تربويًا، فهى تعلّم قيمًا بشكل غير مباشرة من خلال حدوتة، لذا فمنطقى أن يرتبط هذا الشكل بالمرأة، بعكس السيرة التى كان مكانها المقاهى والساحات وموضوعاتها فى الغالب تتناول سير البطولات والغزوات، (باستثناء سيرة الأميرة ذات الهمة)، لذا كان يرويها الرجال، والأدب والتاريخ الشفاهى مرتبط عادة بالنساء والفئات المهمشة».
وعن نشأة تجربة «قالت الراوية» تقول الدكتورة هالة كمال: «إن فترة التسعينيات بالنسبة للنساء كانت مرحلة كتمة اجتماعية، فالمجتمع كان يخنقنا كنساء، والمتنفسات المتاحة معظمها ثقافية، وكنا فى العشرينات والثلاثينات ومنفتحات على الأدب العالمى والإنجليزى وتعرفنا على العالم عبر هذا التراث الأدبى».
وعن منهج العمل الذى انتهجته «قالت الراوية» فى إعادة كتابة ألف ليلة وليلة، تشير إلى أن المجموعة كانت خلفياتها أدبية وتستعين بأدواتها التحليلية فى تحليل شخصيات وزمان ومكان وحبكة وصراع والعلاقات بين الأشياء والسياقات الاجتماعية والتاريخية، كل ذلك انطلاقًا من منهجية نسوية.
وتقول: «كان معنا مبدعات مثل سمية رمضان، التى قدمت لنا أول نص للقصة الإطار (حكاية شهرزاد)، وسحر الموجى التى منحتنا دفقة إبداعية، فشكلت الطاقة الإبداعية إضافة لنا، بجوار منهجيتنا فى تفكيك النصوص، لأن النسوية الحقيقية لا تتوقف عند انتقاد ما هو قائم بل عبر طرح رؤية بديلة».
وتضيف: «وقد كان لكل منا منهجه وطريقته فى رؤية العالم: فكتبت منى إبراهبم (ست العقل والكمال)، بدلًا من (ست الحسن والجمال)، وكتبت سهام عبدالسلام (الشاطر والشاطرة) لأن (الشاطر حسن) ليس وحده هو الشاطر، واستلهمت سها رأفت أجواء وخيال حكايات ألف ليلة وليلة فى حكايات أخرى ولكنها نسوية، وكنا نجلس لنحلل سويًا ونتناقش، ثم تجلس كل واحدة منا منفصلة تكتب حكاياتها، لذا فقد كنا نعمل فى ورشة عمل فعلية، وأخرجنا مجموعتين من الحكايات (الكتب)، وهما (قالت الراوية) و(ما لم تقله شهرزاد)، متخيلات ما سكتت شهرزاد عن قوله، وقدمنا عرض حكى مسرحى لنتاج (قالت الراوية)، أخرجته كارولين خليل».
وحول الأثر الاجتماعى والثقافى لتجربة «قالت الراوية» وأسباب توقفها، تقول الدكتورة هالة كمال: «ظن البعض أننا نطرح أنفسنا كمنافسين لحسن الجريتلى وفرقة الورشة، لكن فى الحقيقة ألهمتنا تجربة فرقة الورشة وانتبهنا عبرها لأداة الحكى وحيويتها وإمكانية توظيفها، وما قدمناه كان ملهمًا لأجيال جاءت بعد ذلك وبرعت فى استخدام الحكاية كأداة مقاومة نسوية فى الحديث والبوح عن التحرش وما تواجهه النساء من عنف اجتماعى».