"كان مزدهرًا في عهد سيد درويش".. حكايات محمد عبدالوهاب مع الفن والغربة والمسرح الغنائي
موسيقار الأجيال الراحل محمد عبد الوهاب، لم يكن فنانًا فقط، بل كان له رأي في بعض القضايا الفنية المطروحة على الساحة ويدلى فيها برأيه على صفحات المجلات والجرائد، ومن ضمن القضايا التي كتب رأيه فيها المسرح الغنائي وقضيته.
وفي مقال له بعنوان "المسرح الغنائي ضرورة قومية" نشر في مجلة الغد في عددها الثالث الصادر يوم 1 مارس عام 1959: قال إن الفن هو أكثر العوامل إثارة للأحاسيس الطيبة في نفس الإنسان، ومعركة القومية العربية التي يخوضها الشعب العربي اليوم بقيادة الجمهورية العربية المتحدة، لها أسلحتها المادية، ولها أيضا أسلحتها الروحية العاطفية.
وأشار إلى أن فن الموسيقى والغناء بالذات سلاح حاسم يؤلف بين قلوب العرب ويوحد مشاعرهم نحو هدفهم المشترك، ويقرب المسافات البعيدة التي تفصل بينهم من المحيط إلى الخليج بل قد يغترب العربي ويهاجر إلى أمريكا وغيرها من بقاع الأرض ويقيم فيها ويتخلق بعاداتها، ولكنه لا يتخلى أبدا عن شأن عزيز لديه، تتمثل فيه بلاده الأم، ذلك هو الأسطوانة العربية.
حكاية مواطن سوري زاره عبد الوهاب
وقال عبد الوهاب: أذكر مرة وأنا في باريس منذ 20 عامًا، إذ تعرفت بمواطن سوري هاجر إلى فرنسا، وأقام بها أكثر من نصف قرن، وأنجب هناك أولادا نشأوا في ظل الثقافة الفرنسية، بعيدًا عن كل ما هو عربي، بل إن لغتهم العربية ذاتها كانت مفككة وركيكة وكثيرًا ما يخونهم التعبير بها، وعندما زرت الرجل في منزله، علمت منه أنه لم يزر بلاده مرة واحدة منذ غادرها، وأن أولاده لم يروا أرضا عربية في حياتهم، فقلت له مستنكرًا:
كيف هذا؟ إنك بذلك فقدت كل صلة بينك أنت وأولادك وأحفاك وبين وطنك الأصلي، فابتسم الرجل وقال في تأكيد: ـ بل إن الصلة موجودة ولم تنقطع يوما واحدا،إنها موجودة هنا، ومد الشيخ يده وأدار مفتاح الجرامغون، وإذ بى أسمع أسطوانة"يا جارة الوادي" ورأيت الدموع تترقرق في عينى الشيخ وزوجته وأولاده الثلاثة: وعلى هذا الضوء نستطيع أن نقدر حقيقة الدور الكبير الذي تلعبه الموسيقى في ربط المواطنين حول وطنهم الواحد.
إن من حقنا بل من صالحنا أن ندعم هذا السلاح الخطير، وأن نرعاه ونتتبعه فكل اتجاهاته، وأن نطوره وننطلق به، نحن ندرك تماما أنه رابط قدسية راسخة تجمع بين كل أبناء هذه الأمة العربية، ولننظر الآن من أين نبدأ زحفنا في هذا الاتجاه.
وأشار إلى أن المسرح الغنائي هو البداية في تطوير جديد، سيرفع عن كل كاهل الملحن والمؤلف قيد "الأغنية العاطفية" الذي يلتزمون به ويفتح لهما آفاقا جديدة ترتقي بالفن وتطوره إلى الأمام وتحفظه لنا سلاحا خطيرا في ربط الشعوب العربية وتدعيم وحدتها.
ومن ناحية أخرى فلنتصور أن ضيفا نزل في القاهرة وأراد أن يسمع موسيقانا العربية فأين يستطيع أن يذهب؟ للأسف ليس هناك سوى الكباريهات الليلية التي تقدم أرخص الفنون وأكثرها ابتزالا، ألا يحط هذا من قدر دولتنا بأسرها قبل أن ينال من قدرة الفن في ذاته؟
ازدهار المسرح في زمن سيد درويش
عندما كان المسرح الغنائي مزدهرًا في عهد سيد درويش، كانت الجماهير تغني إلى جانب "ذوروني في السنة مرة" لحن القلل الجناوي، ولحن الساقين، كما كانت تغني بلادي بلادي، وقوم يا مصري، وغير هذا من الألحان التي تتجاوب مع أهداف الشعب وقضية تحرره.
واختتم مقاله قائلًا: "نحن الفنانين نريد أن يرتفع فننا إلى مستوى المعركة، إننا نطالب الدولة بأن تساهم في تطور فننا المسرحي والغنائي، وأن تمد يدها لترفع فننا إلى المكان الذي تطالبنا به الأجيال القادمة".