الخريف العربى الأسود: تغريب الجماهير الغفيرة
مع كل حدث جديد فى دول المنطقة مثل ما يحدث فى السودان الآن، أعيد قراءة مقال المستشرق الأمريكى من أصل يهودى برنارد لويس الشهير "الغرب والشرق الأوسط" الذى نشره بمجلة فورين أفيرز فى عدد شهر يناير 1997.
ينقسم المقال إلى ستة أفكار منفصلة ومتصلة فى نفس الوقت. الفكرة الأولى عن: هل التحديث.. غربى؟! ويناقش فيه المقولة التى يتزايد ترديدها فى الشرق الأوسط عن أن ما تحتاجه المنطقة هو التحديث بدون التغريب، أى قبول منتجات الغرب ذات الثقافة المادية، وربما أيضًا العلم والتكنولوجيا، ولكن من غير الثقافة الغربية والقيم المزيفة ونمط الحياة الفاسدة المرتبط بتلك الثقافة. يطالب برنارد لويس بإجراء المقارنة بين الغرب والشرق الأوسط فى لحظة التحديث الأولى، ثم دراسة وضع الشرق الأوسط قبل تأثير الغرب عليه وبعده للرد على المقولة السابقة.
ثم يتناول الفكرة الثانية: صعود الغرب. القوة العسكرية البحرية للغرب فى القرن الخامس عشر خاصة فى إنجلترا أثناء حكم الملكة إليزابيث، ويقارن الوضع المتمـيز للمرأة الأوروبية بنظيرتها فى السـلطـنة العثـمانية، بالإضـافة إلى إشارته لتطور جديــد وغريـب على الشرق الأوسط، هو البرلمان فى بريطانيا العظمى التى شهدت النهضة والإصلاح ثم الثورة البرلمانية، وهو ما أطلق عليه المركزية الغربية للغرب.
ويتساءل فى الفكرة الثالثة: ما الذى يجب عمله؟ ويتعرض فيه للتفوق العسكرى الغربى، كما يؤكد أن الإصـلاحـات العسـكرية فى الشـرق هى التى ربما تكـون قـد أدت إلى تأخير ترسيخ الهيمنة الغربية بعد رحيل القوى الإمبريالية الغربية، ويرى أنه يمكن اعتبار جهود بعض الدول من أجل امتلاك أسلحة الدمار الشامل التى هى مبتكرات غربية فى الأساس، بمثابة محاولة لعلاج وضعية اللاتكافؤ، وهى محاولة قد تحقق دمارًا متبادلًا، ولكنها لن تحقق النصر أو حتى التكافؤ، وهو ما يحتاج إلى إعادة إصلاح نظام التعليم الحربى.
وأطلق على الفكرة الرابعة: التعويذة السحرية، ويتعرض فيه لمصدر القوة الغربية، والذى يعود إلى الثورة الصناعية والتطور الاقتصادى، والعلم والتكنولوجيا. ويؤكد أن سر هذه القوة يكمن فى مؤسسات الغرب المتميزة وفى الحكومة الدستورية والنيابية، وهو ما يفتقر إليه العالم الإسلامى وكذلك النمور الآسيوية. ويضيف أنه بينما لا يمكن ممارسة الديمقراطية بدون تحقيق الحداثة، فإنه يمكن قطعًا امتلاك الحداثة بدون الديمقراطية.. لأن خضوع كل من الدولة والعلم للسيطرة الدينية، أيًا كان هذا الدين، هو أمر لا يتواءم مع الحضارة الغربية وخصائصها المميزة للحداثة والتطور.
ويتعرض فى الفكرة الخامسة إلى: تغريب الجماهير. ويتناول بعض الابتكارات التى تساعد على هذا التغريب من وجهة نظره، ومنها على سبيل المثال: قياس الوقت والزمن، والتحديد الجغرافى برسم حدود الدول، واختصار الزمان والمكان بفعل استحداث وسائل الاتصالات الجديدة والسريعة.
وينتهى بالفكرة السادية بطرح سؤال: من الذى يتخذ قرار الحداثة؟ مؤكدًا أن عملية التغيير الحديثة قد تمت بمبادرة الغرب، فالتحديث غربى فى أصوله، لكن جانبًا كبيرًا منه من أصول غير غربية تختلف عن الجذور الإغريقية والرومانية واليهودية والمسيحية للحضارة الغربية. كما يحدد برنارد لويس تعريفه لمعنى الحداثة بمعنى الطرق والمعايير الخاصة بالحضارة السائدة والمنتشرة.. لأن كل حضارة سائدة قامت بفرض نفسها، وبالتالى فإن تعريف الحداثة جاء كمحصلة نهائية للمعايير الغربية.
وينهى برنارد لويس مقال "الغرب والشرق الأوسط" بالتنظير للحضارة الغربية التى دمجت الكثير من الخبرات الحداثية السابقة عليها، وهو ما يعنى أن الحضارة الغربية قد أثريت بإسهامات وتأثيرات الثقافات الأخرى التى سبقتها فى الريادة، كما أن الحضارة الغربية نفسها سوف تورث تراثها الثقافى الخاص بها للثقافات التى سوف تليها.
نقطة ومن أول الصبر..
ما كتبه برنارد لويس يجب أن يتم التعامل معه باهتمام وجدية لأنه يعكس رؤية الغرب، خاصة أن لويس يمثل فئة خاصة من المفكرين الذين يدفع بهم الغرب فى إطار المؤسسات المهيمنة لتبنى وترويج وتسويق مقولات من نوعية "نهاية التاريخ"، و"صدام الحضارات"، ومصطلحات من نوعية "النظام العالمى الجديد" و"العولمة"، وهو ما يرتب أهمية قصوى للانفتاح على ما يكتب لنستكشف محاولات تشكيل مستقبلنا حسب أهدافه واستراتيجياته وشروطه، وربما يدفعنا ذلك لأن نعيد قراءة واقعنا لنغيره بأنفسنا قبل أن يفرض غيرنا علينا التغيير مثلما حدث فى الخريف العربى الأسود.