مصرع كليوباترا!
حسنًا فعل قطاع الإنتاج الوثائقى بالشركة المتحدة حين أقدم على إنتاج وثائقى جديد يروى سيرة الملكة كليوباترا من وجهة نظر مصرية، وقد كان المحرك المباشر للفيلم المصرى هو الرد على خرافة تاريخية شرعت منصة نتفليكس العالمية فى ترويجها، بادعاء أن الملكة المصرية كانت سمراء البشرة.. والحقيقة أن سمار البشرة ليس عيبًا على الإطلاق.. بل إنه قرين بالجمال عند المصريين الذين مدحوا السمار فى عشرات الأغانى.. لكن الفكرة أن كليوباترا تحديدًا لم تكن سمراء اللون.. بل هى ملكة مصرية من أصل يونانى تنحدر من سلالة القائد المقدونى بطليموس الذى حكم مصر هو وسلالته لثلاثة قرون متصلة، بعد أن ورثها من قائده الإسكندر الأكبر.. ولعل ما أثار غضب المصريين ليس أن مسلسل نتفليكس ينطوى على مغالطة تاريخية فقط.. ولكن ما أثار الغضب أن المغالطة متعمدة فى إطار تيار سياسى وفكرى يحكم الولايات المتحدة حاليًا، عنوانه الكبير هو «الصوابية السياسية»، وهى فكرة تعلن هدفًا لا بأس به، وهو رد الاعتبار للأقليات التى هضمت المركزية الغربية حقوقها على مدى عقود.. ولكن المأساة أن من يتصدرون هذا التيار يرتكبون من جرائم تزييف التاريخ ولى عنق الحقائق والتطبيع مع ما هو غريب وشاذ ما يتجاوز حجم الجرم الأصلى بكثير.. وكأنهم يعالجون الخطأ بخطأ أكبر، ويعالجون الجريمة بجريمة أكثر بشاعة.. ومن قلب تيار الصوابية السياسية ولد تيار أكثر خبثًا هو «الأفروسنتريك» أو المركزية الإفريقية الذى يدعى كذبًا وزورًا أن الحضارة المصرية القديمة هى حضارة بناها الجنس الزنجى الأسود، وأننا، نحن المصريين، لسنا أحفاد هذه الحضارة.. وهى كذبة خبيثة ومتهافتة تضرب فكرة الوطنية المصرية فى مقتل.. فقد كان أحد ملامح عظمة مصر أنها وطن متنوع الأجناس والأعراق هضم كل من عبروا عليه وصهرهم فى السبيكة المصرية، التى تبقى من معدن ثمين مهما زادت فيه نسبة الشوائب.. وقد كان من بين العابرين على مصر أحفاد وأبناء القائد بطليموس الذين سكنوا مصر وأصبحت وطنهم وأخذوا منها وأضافوا إليها، وعبدوا آلهتها وتشربوا من حضارتها بقدر ما أضافوا إليها.. وقد كان من بينهم الملكة المصرية كليوباترا أو كليوباترا السابعة، التى يقول لنا التاريخ إن محاولة شبكة نتفليكس الإساءة إليها ليست هى المحاولة الأولى، فقد سبقتها محاولات أخرى كان أشهرها مسرحية للشاعر الإنجليزى العظيم وليم شكسبير تأثر فيها بروايات المؤرخين الرومان، خاصة «بلوتارك»، الذى صاغ التاريخ من وجهة نظر الإمبراطورية الرومانية التى أنهت استقلال مصر تحت الحكم البطلمى وحولتها لولاية رومانية.. ولا شك أن كليوباترا دفعت ثمن كونها امرأة جميلة تعمل بالسياسة، وقد كانت التهمة التى نسبت إليها فى رواية شكسبير، أنها انسحبت من التحالف مع زوجها القائد الرومانى أوكتافيوس أثناء مواجهته جيش مارك أنطونيو الذى هاجم مصر.. ثم انتحرت فدفعت زوجها للانتحار.. وقد تصدى أمير الشعراء أحمد شوقى للدفاع عن كليوباترا من وجهة نظر وطنية مصرية، وقال إن انسحابها من المواجهة بين القائدين الرومانيين هو موقف وطنى مصرى، حيث رأت أن من مصلحتها أن يُضعف كلا القائدين الآخر.. بغض النظر عن أن واحدًا منهما كان زوجها.. وقد مثل محمد عبدالوهاب ومنيرة المهدية مسرحية «مصرع كليوباترا» لأحمد شوقى عام ١٩٢٧، وما زالت الإذاعة المصرية تذيع أغانى محمد عبدالوهاب فى المسرحية أحيانًا.. وأظن أن الوقت مناسب للمطالبة بمعالجة عصرية لنص أحمد شوقى الرائع يتصدى لها البيت الفنى للمسرح بالتعاون مع الشركة المتحدة، ويذاع على القنوات الفضائية المصرية دفاعًا عن هذه الملكة المصرية، التى أثارت انشغال الغرب فسعى لتشويهها بأكثر من طريقة، حيث يبدو أن تاريخنا يقلق الغرب دائمًا لسبب أو لآخر.. لكن الوقائع تقول هذا.. فى الماضى وفى الحاضر وفى المستقبل أيضًا.