د. سلوى جودة تكتب: الشاعر سامح محجوب يفسر للريح أسفارها
الشاعر سامح محجوب في ديوانه "يفسر للريح أسفارها" 2019 يأخذ قارئه في رحلة إسراء خاصة على بساطه الشعري المحمول على أكف ريح يُدرك أسفارها وما يصاحبها من برقٍ ورعدٍ وأضواءٍ كاشفة حيناً ومرعبة كثيراً في أخرى، ويرتدي في رحلته الكشفية حكمة "تيريزيس" العراف الأشهر فيالميثولوجيا اليونانية القديمة "أوديب" التي مسرحها سوفوكليس في القرنِ الرابعِ قبل الميلاد والتي اعتمد عليها أرسطو في تنظيره لماهية التراجيديا ووظيفتها الكبرى في تطهيرِ النفس الإنسانية مما علق بها من ألمٍ وضيقٍ وغضبٍ من جراءِقهر المادة وتجبر الساسة وقسوة الطبيعة، ويأخذنافي ديوانه وعبر ستعشرة قصيدةإلى حدسٍ يُوسفي استثنائي عِارف بتأويلِ أسفار الريح رغم وطأة الخواء والتفاهة واللامعنى والعبث و"أنين الرواة عن اللا شيء" والذات الشاعرة خلال الديوان والتي لم تستطع أن تخفي غضبها، وفي سياق هذا الحال، لمتُصلب ويأكل الطير من رأسِها بلسعت إلى التشخيصِ والتأويل والكشف عن المخبوء من المعاني والتي، ربما، تقود إلى الحرية والخلاص،وتتساءل بحكمةِ الفلاسفةِ الكبار وهي تسعى إلى توليد الأفكار واستنباط الإجابات "أليس هذا سبباً كافياً لٍتَقفزي في النهر"، و"الريح" كرمز في الآداب الكلاسيكية هي رسول السماء، وفي نص سفر التكوين في الكتاب المقدس 2:1 : "وكانت الأرض خربة وخاوية، وعلى وجه العمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه: الريح- الروح- النفس"، والريح أيضاً تمثل كل ما هو حروعابر ومراوغ و مُتغيروغير ملموس.
والديوان يشير إلى شاعرٍ مهموم بقضايا وجودية ومصيرية ،وقد تفاقمت حتى انفجرت بركاناً شعرياً، وهوالثائرمن خلال عبقرية لغوية خَرجت عن المألوف في مَجازها ودراميتها وحبكتها الفنية: سأخونني/ وأقولُ للطُرُقًاتِ/ قد ضَلت خُطَاي/ وأقول للصبحِ/ المُحايد /لاتَزُرني/ في مَسَاي، وهو الباحث في عمق الأشياء عن الممكن في المستحيل ليؤسس لفضاء روحي متكامل: سأخونني/وأقولُ لاسميَ/ لا تكني/ قد تَعبتُ / من المسيرِ/ إلى سواي / ،ومثلما قال نيتشة إنه لمن الضروري ألا نوغل في الفكر وننسى الوجدان الذي يمثله الأدب والشعر،فلابد من العودة إلى مايعتمل في أنفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة فهو يناجي معشوقته رغم مايعتمله من ضعف: أكره كل مايذكرني/ بضعفي/وأنا على بعدِ /عَاصفةٍ/ من شفتيكِ/، أما عن "الأسفار" فهي فضاء الذات الشاعرة المكاني والزماني اللامحدود والمنتمي للتجربة الإنسانية في شموليتها وعنفها وتطورها، وهي ليست بنية مكانية وزمانية تقليدية ففي الفضاء اتساع لحيز الدهشة والحيرة والسؤال وماوراء ذلك من نبش في ماهية الوجود والمصير والنهايات.
وفي سياق الديوان وظف الشاعر سامح محجوب أسطورة بيجماليون في قصيدته "جالاتيا"،الذي نحت تمثالاً لامرأة جميلة وقع في غرامها حتى أنه طلب من الآلهةِ أن تُحولها إلى امرأةٍ حقيقيةٍ،وفي إسقاطٍ سياسيٍ يعري فيه ظاهرية الليبرالية ودُجماطيقية ممارساتها: كُنت ليبرالياً بما يكفي /لأن أكونَ رباً عادلاً/ يسمحُ لصلصاَلِهِ/أن يبكي بينَ يديهِ/،فهو الذي صنعها مثل فاوست جوته ثم كفر بهابعد اكتشافه لخيانتها له، وانتقاماَ مِنها يَطلب من الآلهة إعادتها إلى تمثال ثم يحطمه:خلعتُ عليهِ/ حُزني ولعْنتي/ وقلت له: كُنْ كما تُريد/ لكن التماثيل/ لا تستطيع البكاء/ ، والبكاء الذي حُرمت منه التماثيل هنا من أليات التطهر والخلاص الأرسطي والذي يشير إلى أن الغضب سيظل كامناً مخبوءاً في ذاكرةِ المنحوت الصامت قهراً حتى تحين لحظة البعث والخلاص، وليس هذا فحسب بل:" كل ما في الأمر/ أن الرعاةَ/ لا يفهمونَ/ حاجةَ المطرِ/ للبكاء.
ولقد ذهب العديد من النقاد ومنهم الناقد الإنجليزي تيري إجالتون 1943 إلى أن "كل الفنون لها بعد سياسي" فالسياسة تحدد كل ما يواجهه الإنسان في الحياة بدءاً من الهواءِ الذي يَتنفسه إلى البيتِ الذي يَأويه مروراً بما يجب عليه أن يتعلمه أويرفضه، وفي تفاعل الذات الشاعرة في ديوان "يفسر للريح أسفارها" مع الواقع رصدت ألاعيب السياسة وما تسببه من عذابات البشر في فضائها الكوني البعيد والقريب، ففي الأرض المحتلة:في محطة القطار القديمة/ بيافا/ تُبيحُ امرأةُ/براءة اختراعها أنثى/ لوحشٍ آدمي يأكلها/ ويشهد أن لا إله إلا الله/،والعالم يغمض عينيه كي لايراها، فكل العذابات تتم على مرأى ومسمع العالم وأُممه التي يسمونها مجازاً وتدليساً "المُتحدة" ، وفي قبوها وصالتها الكبرى :تطحن أسنان/ الإمبريالية النحاسية/ أصوات الضحايا، يريدون ضحايا بلا أصوات مثل جالاتيا التي هشمها بيجماليون دون أن يستمع إليها، ولأن الشاعر مسكون بالكلمة الدالة التي تمر عبر ذاته وتخوض جدلاً منطقياً معتمدةً على خبراتِه ومشاهداته وتقدم بَعدها للفضاء المعرفي مركباً فنياً فريداً يمثل المدلول الشعري، فإنه يرصد سقوط الكلمات "مهشمة/ على رأسِ الشاعرِ/لأنه اكتشف/ أن المجاز/ عميلُ سري/ وأن أهله يخونون أهله/، في إشارة إلى الحرب في ليبيا، ومأساة اللاجئين في تركيا: أطفال المخيمات السورية/على الحدود التركية/ يفسدون/ قيلولة الظهيرةِ/ على الخليفة السلطان / ... عويل نساء ليبيا / يزعج لصوص النفط / في المصفاة المجاورة/ ببنغازي ، وفي محنته الكونية يتماهى مع سائق الشاحنة البذيء ،ونادل الحانة العجوز الباكي، وفتاة الليل، وأسدي قصر النيل الذي تعبث الثعالب الماكرة بهما بما يحمله ذلك من معانٍ ودلالات، وأمه التي تحمل" فوق رأسها الأيام / لتبيعها / في سوق المدينة/، ليس ذلك فحسب بل استدعى كل المهمشين والمعدمين في مشاهد الذاكرة ،وكاد أن يصفع الضعف ومسبباته صفعة أخيرة ليس بعدها شئ : أكره الضحايا/ والفقراء/ والحكماء/والمتنبي/ ومسلمات المناطقة/ وعم مصطفى/ الذي تقوس ظهره/من كثرةِ / ما حمل/ من الرمالِ/ والطوب الأحمر.
وتكشف النصوص الشعرية أن كل الانتصارات في هذا العالم الماجن الفاقد لأوليات الإدراك لهويته الإنسانية ولموقفة الحضاري كامتدادٍ تاريخي مَسؤول عن سلامةِ المجرة: وهم ، وكل الملاحم التي تروى عن البطولة والفداء والشرف: خداع ، بعدما تفنن الطغاة والطبقة المتعجرفة في احتكارِ الحياةِ وبعثرة منظومة قيمها الأساسية: يرتدي الشتاءُ/حُلته الداكنةُ/ويتركُ الفقراء/في العراء/، وفي رفضٍ وتمرد لايقل عن غضب حركة (الشباب الغاضب)1950 في بريطانيا التي ضمت مسرحيين وروائيين من أمثال جون أوزبورن وكينجسلي أميس وجون واين وغيرهم والذين عبروا عن خيبة أملهم وعدم ثقتهم في المجتمع البريطاني التقليدي وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وما حملته من أهوال وكوارث مادية وإنسانية، فالذات الشاعرة في ديوان سامح محجوب "يفسر للريح أسفارَها" تحمل نفس الغضب الكوني على أكتافِها،فالجميع ظلال والحقيقة غائبة، في حالٍ عبثي يَنتظرُ فيه الجميع، خاصة في بلاد العالم الثالث وصول جودو الذي لم يصل أبداً : قولي لهم/ بكلِّ خيلاء/ظلَّ ينتظرني/ حتى صار واحدًا /من أبطال الملاحم/، حتى ساحة العشاق التي دخلها في الثلث الأخير من ليل ديوانه، في اللحظة التي يكشف الشعرفيها عن نفسه ويصبح قريباً، أقرب من حبل الوريد، والتي يراود الحرف فيها نفس الشاعر،كان هذا الفضاء الزمني الواسع عامربالفقدِ والحزنِ، والعزف في الديوان كان عل مقام الصبا، مقام الحزن، ففيها رثاء لصديقٍ نسي كعادتهِ أن يودعه:حزين يا صديقي/ لم يعدْ بمقدوري/ أن أسمعَ/ شجنكَ المكتوم/وأنت تحكي لي/ عن حبيبتكَ/ التي تركتكَ/ فريسة للشتاء/عن المرأةِ/ الوحيدة/ التي أحبَبَتَ سمرتَكَ/ من أجلِها/، وشحنات العنف والغضب والانكسارات تتوالى حتى وهو يكشف عن حبيبته المجهولة التي تشبه كثيراً،في ضميري المعرفي، امرأة شكسبير التي كتب من أجلها أجمل سونيتاته ففي قصيدته الأخيرة ذات التسعة عشرة فصلاً، وهو الرقم الذي ذكر في القرآن في سورة المدثر في الآية(عليها تسعة عشر) والتي تشير إلى عدد الملائكة الذين يحرسون سقرأوالجحيم الذي يعيشه الإنسان المعاصر، يصف حبيبته بأنها : الجميلة ُ/ الطويلةُ / الشرسةُ/ الوديعةُ/ تنامُ كلعنةٍ/ في دمي الملوثِ/ بعادمِ الحرية/،وهي التي يدعوها في نهاية تفسيره لسفرات الريح عبر المكابدات الكونية أن لا تتأخر فمركب نوح على وشك الإقلاع وهو يحمل من كل شيء زوجين، يعيشان معاً ويواجهان نفس المصير معاً: كلما تأخرت/ في المُثول/طغى البحر/ ولاعاصم/ من أمرِ الماء.
في الحقيقة ديوان "يفسر للريح أسفارها" للشاعر المبدع سامح محجوب يقتحم عوالم واقعية مُتشعبة ومُلتهبة تَتَناول أزمة الوجود وأزمة العربي في عالمه المعاصر في شعرية متمكنة من أدواتها وفي صدقها وحساسيتها وهي خبرة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود في الكتابة حتى أصبح سُليماني النزعة،عالماً بآليات التشخيص والتفسير ولغة الريح وأسفارها.