مصر وضيوفها
فى إحدى المدن الساحلية تعرفت بأسرة مصرية محترمة.. زوج وزوجة وأبناء مصريين تمامًا.. بعد مزيد من التعارف أدركت أن ربة الأسرة سورية تعيش فى مصر منذ ١٩٦١، أما والدها فهو مسئول سورى فى دولة الوحدة قرر أن يمضى حياته فى الإقليم الشمالى للدولة التى آمن بها.. احتضنته مصر ومنحته جنسيتها وشرف الخدمة فى واحدة من أرفع مؤسساتها الوطنية.. هذه حالة من حالات كثيرة تصلح مدخلًا للحوار حول المواطنين العرب فى مصر.. أو ضيوف مصر كما يسميهم الرئيس السيسى.. القصص المنفصلة تصلح مدخلًا لبناء الآراء الكبيرة.. لذلك تذكرت قصتى مع زميل يمنى تجاورت مقاعدنا فى فصل للعلوم السياسية فى معهد الدراسات العربية فى حدود عام ٢٠١٩.. أثناء استراحة لنا على المقهى سألته: هل أنت سعيد فى مصر؟ نظر لى نظرة استغراب وقال لى: مصر أم الدنيا يا أستاذ وائل.. أنا أعالج أنا وأسرتى بخمسة جنيهات فقط! وكانت هذه أول مرة أنتبه فيها لنشاط المراكز الصحية المنتشرة فى أنحاء مصر التى تم تجديدها وتحديثها فى عهد دولة ٣٠ يونيو لا قبلها.. ما أريد أن أقوله إن ما تحفره مصر فى قلوب ضيوفها يبقى دائمًا وينتقل من جيل إلى جيل ويترجم لنفوذ سياسى وثقافى وحضارى يترجم قيمة مصر.. كى أشرح ما أقوله أكثر.. تخيل عائلة مر أعضاؤها بكرب عظيم وتهرب الأخ الأكبر فيها من أداء دوره.. تخيل كم الإدانة له من إخوته الأصغر ومن الآخرين.. الأمر مختلف لو تهرب أخ صغير من أداء دوره.. سيلتمس له الآخرون العذر لأنه صغير.. أما الكبير فلا عذر له.. سيلومه الناس.. ومصر هى كبرى الدول العربية بحكم أشياء كثيرة ليست منها أرصدة حكومتها فى البنوك.. فالنقود لا تجعل أحدًا كبيرًا.. مصر كبيرة بحكم مساحتها وقوة جيشها وأجهزة دولتها وتنوع مدنها وعظمة شعبها.. لذلك هى كبيرة.. فى مذكراته يروى الصحفى الفرنسى إريك رولو كيف أنه وجد مقهى «داى آند نايت» على نيل القاهرة أقرب لجامعة دول عربية مصغرة.. كان ذلك فى بداية الستينيات، وكان السياسيون العرب يلجأون للقاهرة هربًا من مضايقات يتعرضون لها فى بلادهم.. يذكر رولو بالاسم أكثر من سبعة أسماء للاجئين عرب أصبحوا وزراء ورؤساء وزراء ورؤساء جمهورية أيضًا بعد عودتهم من القاهرة.. والأكيد أنهم ظلوا يحملون الود لمصر ويعبّرون عن ذلك بمختلف الطرق، وكان منهم الرئيس العراقى صدام حسين الذى جاء إلى مصر وهو طالب مطارد وعاد منها ليتدرج فى المناصب حتى أصبح رئيس جمهورية.. إلى مصر أيضًا جاء الملك السنوسى ملك ليبيا بعد خروجه من الحكم وأحسنت مصر وفادته.. وهو نفس ما حدث مع الرئيس السودانى الأسبق جعفر نميرى الذى كان نصف مصرى.. مصر هى التى استضافت قادة النضال الفلسطينى وأولهم الزعيم ياسر عرفات الذى كان طالبًا فى هندسة القاهرة وكان يعلن أنه مصرى الهوى طوال حياته.. وهى التى استضافت قادة النضال الجزائرى وأولهم أحمد بن بيلا وعبدالعزيز بوتفليقة.. وقد ساندت الجزائر مصر فى حرب أكتوبر المجيدة بما لا يمكن تخيله.. والمعنى أن المعروف بين الدول والشعوب لا يتم نسيانه مهما اختلفت الحكومات.. هذه حقائق يجب أن يعرفها المشاركون فى النقاش حول استضافة اللاجئين من هذا القطر العربى أم لا.. من الجميل جدًا أن تكون لدينا صفحات تطالب بالاعتزاز بالهوية المصرية.. هذا دليل روح وطنية افتقدناها فى عقود ماضية، ولكنها يجب أن تتسم بالوعى والاعتدال.. مصر تتحرك فى ثلاث دوائر تأثير متقاطعة ولا يمكن الخروج منها.. الدائرة الإسلامية والدائرة العربية والدائرة الإفريقية.. والسودان يقع فى قلب دوائرنا الأهم.. فضلًا عن أنه الجار الجنوبى لمصر، ودروبه وطرقه حملت لنا الخير أحيانًا والإرهابيين أحيانًا، وهو كله على بعضه مسألة مصرية من الطراز الأول.. وبالتالى لا يمكن التعامل مع شعبه بطريقة التنابز والمعايرة وضيق الأفق والجهل بالتاريخ.. الموجات الشعوبية بين الدول العربية سرعان ما تنحسر مثل موجة بحر لا تستغرق أكثر من دقيقة.. عقب كامب ديفيد تعرض المصريون فى الخليج لمضايقات من زملائهم الفلسطينيين.. وبعد سنوات قليلة أدرك الفلسطينيون أن القاهرة هى ملاذهم الأول والأخير.. قاد العراق جبهة مقاطعة مصر، وبعد عام واحد كان الخبراء المصريون يساندون الجيش العراقى على الجبهة للحفاظ على الأرض العربية.. وقس على ذلك عشرات المواقف والخلافات.. التى سرعان ما تتبخر وتبقى الحقائق الكبرى بين الشعوب.. مصر كبيرة فلا تطلبوا منها أن تكون صغيرة.. قدر الكبير بأن يكون كبيرًا.