"عبور إلى السلام".. أبرشية أنطلياس المارونية تنظم مؤتمرًا عن المصالحة وتنقية الذاكرة
نظّمت أبرشيّة أنطلياس المارونيّة مؤتمرًا عن المصالحة وتنقية الذاكرة بعنوان "عبور إلى السلام"، لمناسبة الذكرى الـ25 لإصدار الإرشاد الرسولي رجاء جديد للبنان"، برعاية البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ممثلا براعي أبرشية البترون المارونية المطران منير خيرالله، وبالتعاون مع وزارة الإعلام، راعوية الشبيبة في أبرشيّة أنطلياس، حركة لبنان الرسالة ورابطة سيّدة إيليج، في مسرح مار يوسف- قرنة شهوان.
حضر المؤتمر وزير الإعلام في حكومة تصريف الاعمال زياد المكاري، السفير البابوي المونسنيور باولو بورجيا، وشخصيات روحية وديبلوماسية وعسكريّة وسياسيّة وحزبيّة وتربويّة واعلاميّة وشبابيّة.
افتتاحا النشيد الوطني، فكلمة الافتتاح مع عريف الحفل الإعلامي ماجد بو هدير.
وعقب ذلك عُرض فيلم قصير بعنوان "13 نيسان... بداية ما عادت تخلص" من كتابة الفنان جورج خباز، إلى جانب رقصة تعبيريّة مع مؤسسة "IRAP" التي لعبت دورًا مهما خلال الحرب اللبنانيّة.
وألقى راعي أبرشيّة أنطلياس المارونيّة المطران أنطوان بو نجم كلمة قال فيها: "لمناسبة اليوبيل الفضي لإصدار الإرشاد الرسولي، حان الوقت للوقوف أمام مرآة ذواتنا بشجاعة، جرأة وتواضع، وأشدّد على كلمة تواضع لأنّ التسلّح به يساعدنا أن نصفح عن الإساءات والإهانات التي ارتكبت".
أضاف: "تعرّضنا لانتهاكات كثيرة، نحن أيضا كنا من المساهمين فيها، بينما رسالتنا ودورنا هو ضمانة السلام، خميرة ولُحمة البلد".
وتابع: "كلّ واحد منا بحسب انتماءاته، لديه تفسيراته، تبريراته واتّهاماته لكلّ حدث، لكنّ الشيء الأكيد الذي لا يمكن أن نختلف عليه أنّنا في حالة غياب ثقة نتيجة تراكم الأذيّة".
وقال: "الآن للأسف لا نستطيع العودة إلى الوراء وإعادة ما خسرناه، لكننا نستطيع أن نبدأ من هذه اللحظة ونغيّر المستقبل، لأن أولادنا يستحقون العيش ببلد يليق بهم والأهمّ أن يتّعظوا من أخطائنا".
ودعا بو نجم إلى "العمل على خطط جديّة عمليّة إنقاذيّة، لتنشئة أجيال بعيدة عن الحقد والكراهيّة، أجيال تحترم الرأي الآخر من خلال إنشاء لجنة "حقيقة ومصالحة" من أجل مواجهة الحقائق بشجاعة، تصفية النوايا، وخوض سرديّة جديدة للأحداث لننتقل من وزر الماضي إلى مستقبل واعد ومتنوّر".
وقال: "سوف يجرى العمل على خطّة تربويّة بالتعاون مع خبراء بدءا من مدارس الأبرشيّة، مع الإستعداد للإنطلاق للمدارس الأخرى، كما التعاون مع وسائل الإعلام لمواجهة خطاب الكراهيّة الذي له التأثير الأكبر في صنع الرأي".
ثم تحدث الوزير المكاري فقال: "ليسَ صُدْفةً أنْ نجتمعَ اليوم في 17 نيسان، أيّ على بُعْدِ أربعةِ أيام من ذكرى 13 نيسان، في لقاءٍ يَحْمِلُ عُنوانَ "المصالحة وتنقية الذاكرة".. لقد تَعَمَّدَ صاحِب الدعوة سيادة المطران بو نجم هذا التاريخ وهذا العُنوان. التاريخ مُعبِّر، والعُنوان مُعَبِّر، لَعَلّنا نَعْتَبِر".
وأضاف: "اسْتَعَنّا بعد الحرب بمأثور "عفا الله عمّا مضى، ولكن الماضي لم يَمضِ.. من خلال اسْتِقْراء تَجْرِبَة التسامُح والغُفران التي حصلت في جنوب أفريقيا، يتبيّن بوضوح أنّه تَمّ استبدال ثقافة العُنصرية بثقافة المُواطنة والمُساواة بعد الاعتراف العلني بالارتكاب، والندم على ما ارتُكِب، والتسامح والعفو. نحنُ لم نعْترِف،، لم نندَم،، لم نُسامِح ولم نَعْفُ، والأسوأ أنّ زعماءَ الحرب اللبنانية حاكمونَ بعدَ الحربِ أيضاً".
وقال: "العفو، التسامح، الغفران، مصطلحات من ركائز الإيمان المسيحي، ولكنّها مصطلحات يتمُّ الاستعانة بها تذاكياً وتكاذُباً للأسف. "العفو عند المقدرة"، وحده سليمان فرنجية امتلك المقدرة الصادقة على العفو.. نظّف ذاكرَتَهُ في السِلْم من ضغائِن الحرب وأحْقادِها، وتَعايَشَ بسلام مع واقعِ خسارتِه الأليمة لكاملِ أفرادِ عائلتِه. طوى صفحة خسارة أليمة ولم يطلب ثمناً في السياسة. لقد عايشتُ كلّ الحروب، وبشكلٍ خاص الحروب المسيحية ـ المسيحية بكلِّ أخطائها، وعايشتُ أيضاً كيفَ سامحَ سليمان فرنجية وعفا. طوى صفحة الماضي ليؤسّس للمستقبل، وليت الجميع يحذونَ حذوَهُ".
وأضاف: "من المعروف أنّه عندما تنتهي الحروب، لا يجب أن تُقيمَ في الذاكرة إلاّ للعِبْرة، ولكن للأسف هناك من يُبقيها في الذاكرة تسويقاً للأحقاد وتعميما للفجور السياسي... تلاعب هنري كيسنجر بخرائط المنطقة، فدَفَعْنا طَوَفاناً من دمائِنا في حرب الإخوة ـ الأعداء التي سقَطَتْ علينا من حيثُ نعلم. للأسف نفّذ المسيحيون بأنفسهم الحرب التي أُراد الآخرون أن تكونَ عليهِم، و"المسيرة" مستمرّة، وتأسيسُ ذاكرة مُفيدة قد يَطول. قبل ثمانية وأربعين عاماً أُريدَ للبنان أن يكونَ وطناً بديلاً للفلسطينيين، واليوم يُراد للبنان أن يكونَ وطناً بديلاً لمليوني نازح سوري. تلاعبٌ بالجغرافيا والديموغرافيا، وجميعُنا نتلهّى بجنسِ الملائكة!! مُراهقة سياسية لأشخاص عجِزوا عن تجاوز الماضي وبناء الحاضر والمستقبل على أُسُس التسامح وتنْقية الذاكرة".
وتابع: "هُنا سيسألُنا الجيل الجديد ماذا فعلتُم لنا، إن ظلّ الـ "هنا" وطناً لنا ولهُم... الـ "هُنا" لم يعُد لنا، والتقارير في مُعْظمِها لا تتحدّث إلاّ عن أيامٍ سود تنْتَظِرُنا كلبنانيين".
وقال: "أريدُ أن أُصَدّق أنّ الجميع يريد إنقاذ لبنان، ولكن خوفي أنّ لا أحداً يريدُ التعاون مع الآخر من اجل إنقاذ الوطن، علماً أنّ ليس باستطاعةِ أحد إلغاء الآخر، أو حتى التفرّد بالقرارات. فلنقولُها صراحة، ما نشهده اليوم من جنوحٍ نحن التفرقة والطلاق، سياسياً وثقافياً وجغرافياً هو نتيجة فشل المصالحة ومردّ هذا الفشل الى عدم المصارحة بين كل مكونات الوطن".
وأضاف: "للردّ على كل دعوات الطلاق هذه لا بدّ لنا من رفض التقسيم و الكل يتحمل المسؤولية.. الحجر الأساس للمصالحة هي اختيار رئيس للجمهورية، رئيسٌ يربطُ الغفران بالمصالحة ورئيسٌ قادرٌ على نسجِ مصالحاتٍ لبنانية عربية".
وأردف: "الحاجة تفرُضُ إعادةَ وصْلِ ما انْقَطَع، وإعادةَ بِناء ما تَهَدّم. نحن الذين نؤمنُ بالرجاء، لا نُريدُ أن نقولَ إنّ زمنَ المُعجزات انتهى، وإنّنا في زمنِ العجز، وعلى الإعلام أن يلعب دوراً بناءً في بناءِ جُسورِ العبور إلى السلام. بالأمس مثلاً تمّ تعميم خبر يقول إنّ حرس المجلس النيابي منَعَ فتح باب كنيسة مار جرجس أمام المُصلّين، وصَلَني الخبر من كثيرين، وقامت القيامة ولم تَقْعُد، ليتبيّن بعدها في توضيح صدَرَ عن كنيسة مار جرجس أنّ الخبر عارٍ من الصحة".
وختم: "نُريدُ استخدامَ الإعلام كجسرٍ للعبور إلى الآخر، لا كمنصّة لتوسيعِ الشَرْخ مع الآخر، لأنّ لا مفرَّ لنا من العيشِ تحتَ سماءٍ واحدة في "لبنان الرسالة".
أمّا السفير بورجيا فرأى أنّ "بناء السلام يتمّ من خلال الحوار، أو حتى من خلال ثقافة الحوار الصحيحة والسليمة، والتي تسمح للناس بالالتقاء والتحدث مع بعضهم البعض".
وأضاف: "إن ثقافة الحوار تجعل من الممكن تعلم الالتقاء والبحث عن نقاط الاتصال وبناء الجسور والعثور دائمًا على شيء يشمل الجميع والعمل معًا من أجل خير الجميع".
من جهته، عرض المطران خيرالله لحيثيات السينودس الخاص بلبنان الذي دعا إليه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، والمراحل الأساسيّة والجوهريّة للوصول إلى الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان".
وقال: “رجاؤنا كبير أن شبيبة لبنان، وهم الغد الواعد، سيعملون على إقامة الحوار الحقيقي والصادق في ما بينهم، ويقومون معًا بتنقية الذاكرة التاريخية، وسيجمعون كل طاقاتهم وإمكاناتهم في سبيل إعادة بناء لبنان، الوطن الرسالة، في دعوته التاريخية، رسالة في الانفتاح واحترام الآخر، والتنوّع في الوحدة الوطنية، والعيش الواحد المشترك”.
ثمّ جرى عرض شهادات حياة لمقاومين وضباط من الجيش اللبناني متقاعدين شارك فيها ريمون ناضر، فادي الشاماتي، والجنرال خليل حلو، حاورهم الصحافيّ كلوفيس شويفاتي.
وعقب ذلك عقدت حلقة نقاش عن "دور المؤسسات التربويّة والأفراد والإعلام في بثّ ثقافة السلام بعيدا من الكراهيّة وشحن النفوس"، شارك فيها كل من: الخبيرة في علم الإجتماع التربوي وديعة الخوري ، الأستاذ الجامعي والمدير التنفيذي لمؤسسة "أديان" إيلي الهندي والإعلامي يزبك وهبه، وحاورتهم الإعلامية ميريللا بو خليل.
وصدرت عن المؤتمر التوصيات الآتية:
أولا: تشكيل هيئة وطنية لتنقية الذاكرة والمصالحة، من أفراد وجمعيات مختصة في مجال الحوار وادارة التنوع تكون مهمتها انتاج رؤية والتحضير ليوم المصالحة الوطنية، على أن تنبثق عنها أو تُنتدب من قبلها لجان جمع السرديات التي هي اجزاء السردية الوطنية الكاملة.
ثانيا : العمل على الصعيد التربوي لإطلاق برامج تدريب للمربّين وتوعية وتثقيف للنشء على ثقافة السلام والحوار والنقد البنّاء وفق ما دعت الى الوثائق الكنسية، مع التركيز على غرس الفضائل الانسانية كلغة مشتركة من خلال هذه التدريبات.
ثالثا: تركيز عمل هيئات المجتمع المدني – انطلاقا من توطيد أسس السلام مع الذات اولا - على خلق مساحات حوار مستدامة تسمح ببناء المواطنة الفاعلة والحاضنة للتنوّع، مع الحرص على عدم السعي للحلول مكان الدولة، او التحوّل الى مطية لاجندات خارجية او داخلية.
رابعا: دعوة المؤسسات الإعلامية على تنوعها للالتزام بدورها المحايد والدقيق بنقل الاخبار والأحداث من التدخل فيها وتحويرها لمصلحة أي طرف، بما في ذلك ممارسة "البروباغندا" السياسية في مقدّمات النشرات الإخبارية وافتتاحيات بعض الصحف. كذلك دعوة الاعلاميين للإبتعاد عن الشحن الطائفي والمذهبي والسباقات الصحافية وتفادي استخدام الشتيمة والتخوين والتعامل مع النزاعات بطريقة بناءة، خالية من العنف مع إعطاء مساحة لمختلف الآراء وإبراز الأصوات المعتدلة والوسطية ونقاط الالتقاء بين جميع الأطراف. ودعوة الإعلام اخيرا لتوسيع التدريجي للمساحات الإعلامية التي تنشر مضامين ومحتويات إنتاجية تتعلق بموضوعات السلام وايجابياتها كما يتمّ فيها توضيح اضرار الحرب.
خامسا: "تطلق أبرشيّة انطلياس اكاديميّة القيادة، بحيث تتمحور مهمّتها وأهدافها وبرنامجها حول الارتقاء بالعمل السياسي من خلال إعادة الاعتبار للمبادئ والأخلاق في السياسة وللفضائل في القيادة.. كما يكون دور الأكاديمية تجهيز الشبيبة للانخراط في الشأن العام من خلال تثقيفهم بعمق حول تكوين لبنان ورسالته وتعريفهم إلى "فنّ السياسة" القائم على خدمة الإنسان والخير العام".