فنان قدير
فى مسلسلات الثمانينيات كان هناك لقب يسبق أسماء كبار ممثلينا على التتر هو «الفنان القدير».. لا يمكن أن تذكر أسماء مثل حمدى غيث أو عبدالله غيث أو سميحة أيوب إلا ويسبقها لقب «الفنان القدير».. كنت أحب جدًا هذا اللقب وأعتبره أهم من صفات مثل نجم الشاشة ونجم الجماهير.. حين كبرت عرفت أن «فنان قدير» هى درجة وظيفية فى المسرح القومى تعادل درجة كبير موظفين.. درجة بين درجة المدير العام ووكيل الوزارة.. ولأن المعايير كانت مضبوطة.. فإن كل من حمل لقب فنان قدير كان فنانًا قديرًا فعلًا.. شغلتنى فكرة أن يكون الشخص قديرًا فى مهنته عن أن يكون شهيرًا أو ثريًا.. القدير هو من يترك بصمة بغض النظر عن سعره.. القدير ليس له سعر ولكن له قيمة.. وبين الاثنين فارق كبير.. طافت هذه الأفكار بذهنى وأنا أتابع أداء عدد من القديرين على شاشة رمضان هذا العام.. والذين شكلوا قيمة إضافية للأعمال التى شاركوا بها لا تقل إطلاقًا عما قدمه الأبطال الرئيسيون لهذه الأعمال.. ولم يكن غريبًا أن يرتبط تألق هؤلاء القديرين هذا العام بوجود مخرجين أقوياء ذوى شخصية، ألقوا الضوء على مواهب هؤلاء القديرين وأطلقوا طاقاتهم الكامنة فتوهجت مواهبهم وانطلقوا من تحت الرماد.. ولعل فى مقدمة هؤلاء القديرين هذا العام الفنان الكبير رشدى الشامى ابن المسرح القومى الذى يمارس التمثيل منذ ١٩٩٤ ليراكم عصيرًا من الخبرة والنضج وتغير الملامح، بحيث تلمع موهبته مع دخوله فى مرحلة الرجل ذى السن الكبيرة ويلمع منذ مشاركته فى عدة مسلسلات أخيرة كانت كلها مع مخرجين كبار مثل كاملة أبوذكرى وعمرو سلامة ومحمد شاكر خضير الذى قدمه فى مسلسله الأخير «تحت الوصاية» كأحسن ما يكون التقديم.. فى قائمة القديرين أيضًا رغم صغر سنه الفنان الكبير أحمد عبدالحميد الذى يلعب دور «الريس شنو»، وعبقرية هذا الممثل أنه دائمًا ما يلعب دور الشقى أو المجرم رغم أنه تعلم التمثيل فى أمريكا وينتمى لطبقة اجتماعية غير التى يلمع فى تمثيل أبنائها على الشاشة، ويشاركه فى هذا الفنان «على صبحى» الذى يلعب دور صياد شرير ومدمن مخدرات، ومعه الممثل الكبير خالد كمال وهو ممثل عبقرى يلمع فى أدوار الشر، والقاسم المشترك بين الجميع أنهم نتاج حركة المسرح الحر والفرق المستقلة، وهو ما يوضح لنا أهمية دعم الدولة هذه الفرق التى تمثل رافدًا فى غاية الأهمية من روافد الفن المصرى وصناعة الدراما المصرية.. فى قائمة القديرين هذا العام أيضًا يحتل الممثل أحمد فهيم مكانًا متقدمًا بدوره فى المسلسل الشهير «جعفر العمدة»، حيث يؤدى دور الأخ الأكبر الضعيف ومحدود القدرات لبطل المسلسل.. وقد استغل فهيم الطبيعة غير التقليدية للشخصية وقدم أداءً تفوق فيه على نفسه وبشّر بممثل كبير قادم يملأ الفراغ فى منطقة الرجل المصرى العادى الذى ليس بطلًا ولا شابًا ولا مفتول العضلات.. لكنه يشبه الملايين من المصريين العاديين فى ملامحهم وحياتهم ومشاعرهم.. ولعل من علامات عبقرية هذا الممثل أن بدايته مع الشهرة كانت مع دور كوميدى يحمل فيه اسم «المعلم بسبوسة» وينصح بطلى العمل بالتخلص من خصمهما بالصعود به إلى «سطح الواد حمادة»، وقد ذاع التعبير بين المشاهدين وارتبط باسم هذا الممثل الذى لم يعد للكوميديا حتى لمع فى شخصية مركبة هذا العام.. ولا شك أن الفضل يعود لمخرج العمل الفنان محمد سامى الذى يتميز بالقدرة على إدارة الممثلين وإطلاق طاقاتهم فى التعبير، ولعل هذا ينطبق أيضًا على الفنانة الكبيرة هالة صدقى وهى موهبة كبيرة تتألق إذا كان المخرج الذى تعمل معه متفهمًا قدراتها، فى حين تميل أحيانًا للمبالغة إذا لم يكن المخرج مهتمًا بضبط الأداء.. وقد دخلت هذا العام فى حالة من النضج والتألق ستضعها فى منزلة فنية أخرى، ويمكن اعتبارها بداية مرحلة جديدة فى تاريخ هذه الفنانة المخضرمة.
ولا يمكن الحديث عن القديرين فى مسلسلات هذا العام دون التوقف عند الممثل الكبير حمزة العيلى.. الذى يلعب دور قائد الشرطة فى مسلسل «رسالة الإمام» وهو ابن المسرح الجامعى فى المنيا وخريج مركز الإبداع المسرحى وهو صاحب مدرسة خاصة فى الأداء تنتمى لطريقة أداء ممثلين مثل محمود مرسى وصلاح منصور.. حيث يؤدى أداءً داخليًا لا يعتمد على نبرات الصوت أو حركات الجسد بقدر ما يعتمد على تقمصه لروح الشخصية.. وقد شاركه التألق هذا العام الممثل الكبير نضال الشافعى الذى لعب دور منافسه فى أحداث المسلسل.. ونضال ممثل مسرح كبير يتجه أحيانًا للأفلام التجارية مهدرًا طاقته الكبيرة وتاركًا المساحة الحقيقية لتميزه كفنان قدير.. كانت هذه بعض نماذج لحبات ماس فى عقد الدراما المصرية.. الثرية.. والمتنوعة.. والمليئة بمئات المواهب المصرية التى نضجت فى معاهد الفن وقصور الثقافة وفرق المسرح، وغيرها من مؤسسات البنية التحتية الثقافية التى يجب أن ندعمها ونحافظ عليها ونشكر القائمين عليها على الهدايا التى يهدونها للفن المصرى فى كل عام، والتى لا ينافسنا فيها أحد ولا يستطيع أن ينافسنا فيها أحد.. شكرًا لكل فنان قدير استمتعنا بفنه هذا العام.