الإمام الشافعى
مداخل عديدة جدًا يمكن أن تدخل منها لشخصية الإمام الشافعى، رضى الله عنه.. تعدد يدل على الثراء والألمعية والتفرد ويوجب توجيه التحية لفريق عمل مسلسل «رسالة الإمام» الذى يعرض على الشاشات حاليًا.. من ميزات المسلسل الكبرى أنه أعاد طرح هذه الشخصية الفذة على أذهان المسلمين فى هذه الفترة الحرجة والتى نخرج فيها من عقود ساد فيها فهم جامد ومتزمت ورجعى للدين.. هذا الفهم ليس هو الدين نفسه ولكنه فهم البعض له.. فهم «البعض» هذا تم تسييده فى العالم الإسلامى بقوة المال والسياسة لأسباب لا علاقة لها بالدين بقدر ما لها علاقة باستخدام الدين لأغراض سياسية، كما اعترفت أطراف متعددة منذ بدايات السبعينيات وحتى الآن.. عقود متواصلة تم فيها تصنيع وحش مشوه اسمه الإسلام السياسى وتمت تغذية هذا الوحش بمذهب فقهى متشدد متزمت شكلى سمى كذبًا بالسلفية، وهو ليس كذلك من الأساس.. ثم قامت ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ مستندة للميراث الحضارى لشعب مصر صاحب الميراث الحضارى العريق.. وبدأنا نراجع كل ما قادنا لذلك المستنقع من التطرف والتزمت ثم العنف والإرهاب.. وكانت إحدى الإجابات من وجهة نظرى أن أحد أركان المؤامرة كان تغييب المشاركة المصرية فى علوم الإسلام.. وكان هناك من يريد أن يربط الإسلام ببلاد بعينها، فى حين أن الإسلام ملك لجميع المسلمين.. وفى حين أن مصر بحضارتها وعمقها قدمت أعظم المساهمات فى الفقه الإسلامى، سواء فى صدر الإسلام أو عبر ألف ومئة سنة من عمر الأزهر الشريف وهو أقدم جامعة إسلامية فى العالم وهو أيضًا أكبر من أى شخص أو شيخ من شيوخه «مع كامل الاحترام لهم جميعًا».. هذا السياق يبدو مهمًا جدًا لنفهم أهمية مسلسل عن الإمام الشافعى فى هذه الأيام.. إن الشافعى، كما يظهر فى أحداث المسلسل وكما قرأت عنه، هو صاحب «العقل النزيه» و«القلب النقى».. إنه عقل عبقرى.. مفتوح على كل مصادر المعرفة.. يجمع بين كونه تلميذًا للإمام مالك وبين نقده لأفكار الإمام مالك حتى إنه يموت ثمنًا لشجاعته فى النقد.. ويجمع بين ولائه العاطفى لآل البيت وبين اعترافه بشرعية الخليفة العباسى ورفضه الخروج عليه.. ويجمع بين أهل «النقل» الذين يمثلهم الإمام مالك وبين أهل «العقل» الذين يمثلهم الإمام أبوحنيفة، رضى الله عنه.. ويجمع بين البراعة فى اللغة والعبقرية فى الفقه وبين علوم الدنيا كالطب والفلك والفراسة وغيرها من العلوم.. ويجمع أيضًا بين كونه فقيه أهل زمنه وبين تبرك المصريين به كواحد من أقرباء آل البيت وأوليائهم.. يتبرك به المصريون حتى اليوم ويرسلون الخطابات لمقامه الشريف محملة بطلباتهم البسيطة.. سماه المصريون «قاضى الشريعة» رغم أنه لم يتول القضاء قط.. إن قصة حياة الإمام الشافعى هى قصة عقل متقد وروح وثابة وشخصية منصفة لمن سبقها من الفقهاء ولمن لحق عليها من التلاميذ.. إنه، كما يروى الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى فى «أئمة الفقه التسعة» مطلبى من أبناء المطلب بن عبد مناف.. شقيق هاشم بن عبد مناف جد الرسول الكريم.. وهو يولد يتيمًا فى غزة فتحمله والدته إلى مكة ليعيش وسط قبيلته قريش.. وتنذره للعلم رغم فقر الحال.. ولا يجد الشافعى ثمن الكتب المنسوخة والمكتوبة على الجلد فيتعلم أن يحفظ الكتاب من أول قراءة لأن شراء الكتب رفاهية لا يملكها.. يعجب به والى مكة فيرسله بخطاب توصية للإمام مالك بن أنس.. مؤسس أول مذهب فقهى من المذاهب الأربعة الشهيرة.. يصبح تلميذًا للإمام مالك الذى تربى طفلًا فى منزل الرسول «صلى الله عليه وسلم» وأكسبه هذا قداسة ومهابة فوق مهابة العلم.. ثم ينتقل الشافعى قاضيًا مع والى اليمن الذى كان قريبًا له.. وهناك يتهم هو وتسعة آخرون بالانحياز لثائر علوى من آل البيت.. فيحكم عليه بالموت.. هو وزملائه.. يقتل زملاؤه بالفعل.. لكن القاضى محمد بن الحسن تلميذ أبى حنيفة يقول لهارون الرشيد.. هذا محمد بن إدريس الشافعى وهو رجل علم لا نظير له ويتشفع له فينجو.. بل يحصل على خمسين ألف دينار منحة من الخليفة هارون الرشيد الذى كان سيقتله قبل ساعات.. الشافعى إذن هو تلميذ الإمام مالك الذى درس عليه فى المدينة وهو أيضًا تلميذ الإمام أبوحنيفة الذى درس على يد تلميذه محمد بن الحسن «الذى توسط له لدى الخليفة».. لكن التاريخ يقول لنا إن إعجابه الحقيقى كان بـ«الليث بن سعد» إمام أهل مصر.. وهو مصرى قبطى ثرى.. دخلت أسرته فى الإسلام ونبغ هو فى دراسة الفقه.. وكان يذهب للحج والعمرة كل عام ويلقى دروسه هناك فيسمعه الشافعى ويتعلم منه.. وكان من مآثر الليث بن سعد أنه يهدى الأموال الكثيرة للإمام مالك بن أنس منافسه الفقهى وصاحب المذهب الأكثر تشددًا من مذهب الليث بن سعد.. ولم يكن غريبًا أن ينهى الإمام الشافعى حياته بالمجىء إلى مصر بلد الليث بن سعد.. وأن يزور قبره عند وصوله وأن يصفه بأنه أعلم أهل زمنه ولكن تلاميذه «لم يقوموا به» أى لم يحفظوا تراثه وكتبه.. والحق أنه قيل إن تعصب العرب لبعضهم البعض وتعصب تلاميذ مالك لفقهه دفعهم إلى إخفاء فقه الليث بن سعد ومحوه.. كان من أثر مجىء الشافعى إلى مصر أنه أعاد كتابة فقهه كله على ضوء ما تعلمه فى مصر.. وكان من التقاليد التى استقاها الفقهاء فى مصر هى إتاحة الفرصة للتلاميذ للجدل والنقاش.. وهو تقليد موروث من جامعة الإسكندرية وطريقة التعلم الفلسفية.. وهى طريقة لم تكن موجودة فى حلقات الفقه فى العراق والحجاز.. واتبعها الشافعى فى مصر.. وقد أسس الإمام الشافعى للفقه كعلم.. وكان هو واسطة العقد بين أصحاب المذاهب الأربعة.. فهو تلميذ الإمام مالك وأبوحنيفة وأستاذ وصديق لأحمد بن حنبل.. وهو مطلع على تراث الليث بن سعد الذى تم محوه.. وقد جمع بين آراء أهل «النقل» الذين يلتزمون بحرفية النصوص وبين آراء أهل «الرأى» الذين يطالبون بالقياس والتفكير.. وقال إن القرآن والسنة وآراء الصحابة هى كلها مصادر للتشريع.. وقال إن الصحابة ليسوا من يقيمون فى مكة والمدينة فقط ولكن المسلمين فى كل بلد من بلاد الإسلام.. وسمح للنساء بحضور دروس العلم.. وكان تلميذًا وأخًا للسيدة نفيسة، رضى الله عنها، وهى التى صلت عليه بعد وفاته.. ولم يكن غريبًا على عقل مثل الشافعى أن يموت شهيدًا بعد اعتداء مجموعة من المتزمتين عليه بالهراوات والعصى لأنه هاجم أفكارًا متشددة لأستاذه الإمام مالك.. الذى يحترمه ويقدره.. لكن هذا هو قدر المصلحين وأصحاب الأفكار الصادقة فى كل زمان ومكان.. مات الشافعى وعمره أربعة وخمسون عامًا بعد حياة ملأ بها الدنيا وشغل بها الناس.. وحفظه المصريون فى قلوبهم رغم أن هناك من حاول أن يسدل ستائر النسيان على علاقة الإمام الشافعى بمصر ووجود جثمانه فيها ومحبة المصريين له.. ومن هنا تأتى أهمية مسلسل «رسالة الإمام» الذى أنتجته المتحدة هذا العام ليكون عودة حميدة وواعية لمسلسلات التاريخ الدينى الواعية والتى تعالج الماضى لتطل من على الحاضر.. وهذا دور عظيم للفن عمومًا ولهذا المسلسل خصوصًا.. فتحية له.