الشاعر موسي حوامدة يستعيد ليالي رمضان في جانب من سيرته الذاتية
يعكف الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة علي كتابة سيرته الذاتية. وقد خص “حوامدة” الـ“الدستور” بجانب من هذه السيرة، وتحديدًا تلك التي تناول فيها ذكرياته الرمضانية والطقوس التي يخص بها هذا الشهر الفضيل.
ــ ليالي رمضان.. ليالي السمر
وتحت عنوان “ليالي رمضان .. ليالي السمر” يقول موسى حوامدة: “صار أبي يجبرني، على الوقوف معه في الدكان، ومساعدته، بل صار يطلب مني تسجيل الديون في دفتره الخاص، ولما كان يخرج إلى مشوار ما، يحذرني من بيع فلان أو علان بالدين، ويوصيني على بعض الجيران، وأشهد أنه كان يسامح بعض العائلات المحتاجة، حين نقوم بتنقيح الدفتر، ويقول لي هذا لا يعمل، فلا نطالبه، وهذه العائلة حالها على الله، ولا نريد منهم شيئًا، وهذه المرأة زوجها مسجون، ولها علينا حق، وهذا رجل طيب ومحترم، أما فلان وفلان فلا تداينهم شيئًا، وكنت أحيانًا أنسى وصاياه الكثيرة، وأتعرض فيما بعد للتوبيخ”.
ــ “لمة العيلة” في رمضان
يلفت “حوامدة” إلى: وفي شهر رمضان، صار يصطحبني معه، لنفطر جماعة مع أقاربه في جامع العائلة، وربما كانت تلك الليالي، من أجمل الليالي التي عشتها في البلد.
كان أبي يبدأ قبيل آذان المغرب، بفرم حبات البندورة، ثم يسكب عليها قليلاً من تنكة الطحينة ذات الرائحة الشهية، بينما ترسل أمي طبقاً يومياً مما طبخت، وقبل الآذان بدقائق، يحمل أبي صحن السلطة، وأحمل الصينية التي أرسلتها والدتي، ونمشي معاً، وقبل الوصول إلى الجامع، (وهو ديوان العائلة، الذي يسمونه الجامع)، أشم رائحة القهوة والهيل، وأسمع دق المهباج، الذي أحب صوته، وما أن نصل، حتى أرى بعض الرجال وقد أشعلوا النار، ووضعوا أباريق القهوة والشاي على الحطب، كنت أحب منظر النار، وهي تتراقص مع الغروب، وتتحرك فوقها قلاية تُحمِّص فيها حبّات القهوة، التي تتقافز كأنها غزلان نافرة، قبل أن توضع في المهباج، لطحنها، وإضافتها إلى البكرج الذي يغلي فوق النار، تتصاعد رائحة البن، وهي تختلط مع روائح الطعام الشهية، بينما يبدأ صوت إبريق الشاي الكبير بالغليان.
وقبل آذان المغرب، يبدأ بقية الرجال بالتوافد، وكل واحد منهم، يحمل صحنه، وحينما يضع الجميع صحونهم وأطباقهم، أحرص على الجلوس مقابل طعامنا، وصحن السلطة، الذي أعدَّه أبي، وما أن يقول المؤذن "الله أكبر"، حتى تهوي الأيدي على الصحون والأطباق، بينما يتلاشى صحن سلطتنا وطبقنا اليومي، فكل الأيدي تمتد نحوهما، وتفرغ دائماً قبل الصحون والأطباق الأخرى، فاضطر لأغمس من صحون مختلفة، لا يعجبني مذاقها، فأتظاهر بالشبع.
ــ ليالي السمر الشيقة
ويمضي “حوامدة” مضيفًا: بعد تناول الطعام، ينهضون لصلاة المغرب، ويبدأون بشرب القهوة والشاي، وبعد صلاة العشاء والتراويح، يبدأون ليالي السمر الشيقة.
كنت دائماً أعود جائعاً، ولكني أحب هذه الأجواء، وأحرص على حضورها، وفي يوم من الأيام، تجرأت، وقلت لأبي: خلينا نفطر هنا، ونذهب للجامع بعد الإفطار، استغرب ما أقول، واستفهم عن السبب فقلت: إنهم يأكلون طعامنا بسرعة، ويتسابقون عليه وعلى صحن السلطة، وطعامهم ليس طيباً، فقال: إذن افطر عند أمك. ولما رفضت، قال لي: اسمع نحن لا نأخذ طعامنا هذا لنأكل منه، بل من أجل الآخرين، أنت ترى أن أغلب الناس فقراء، هل ترى الحاج عطا الله ماذا يحضر معه، إنه لا يملك شيئاً، ( كان الحاج عطا الله يحضر كل ليلة صحناً، مليئاً بشوربة العدس، والعلم عند الله أن حبات العدس، كانت تعد بالواحدة)، وليس الحاج عطا الله فقط، كان أغلب الناس، في ظل الاحتلال الصهيوني لبلادنا، بالكاد يدبرون طعامهم، وكان أغلبه عدساً، أو جريشة قمح، أو بعض حبات بندوة ناشفة مطبوخة، والأغنى منهم من يحضرون كوسا محشياً، أو زهرة (قرنبيط) مطبوخة، أو ملفوفاً، أما الدجاج واللحم فكان نادراً، وأضاف أبي، كأنه يهزأ مني: فإذا كنت تأتي معي، لكي تملأ بطنك من طعام أمك، فاذهب وافطر عندها، قلت: لا، لا، لن أمدُّ يدي لطعامنا، أحب الجَمعة، والأحاديث، وليالي السمر بعد صلاة العشاء، قال: إذن عوِّد نفسك أن تأكل مما تجد أمامك، فكل مَن تأكل من طعامه، يكسب أجراً، ونحن نكسب أجراً، لأن الآخرين يأكلون من طعامنا.
وشدد “حوامدة” علي: ةكانت تلك الطقوس والليالي رائعة، حيث كنت أسمع النوادر والقصص والحكايات، والأغاني الشعبية، وذكريات الرجال عن أيام زمان، وبعض الأحداث التي جرت قديماً، وكثيراً ما كان يأتي للجامع عابرو طريق، أو من تقطعت بهم السبل، ويروون حكاياتهم، وينامون في الجامع، وكثيراً ما كان بعضهم يبدأ بقراءة القرآن، والكل يستمع، ويذهب البعض للحديث عن البلاد الَّتي ضاعت، وعن أيام الملح والبرتقال في فلسطين، وكيف كانوا يذهبون للعمل هناك، والبعض كان يتحدث عن أيام الأتراك، ونادراً ما كان الحضور يتوقفون عن الحديث والسمر، وحتّى اللهو المرح.