لروحنا نعود.. ونبقى إحنا
لم تدهشنى هذه الفرحة اللى بتنط من صور إفطار أهل المطرية... ولكن أدهشنى ذلك الفرح الذى اجتاح السوشيال ميديا بهذه الفرحة... بهذه البساطة والقدرة على التنظيم... دى الزحمة اللى إحنا بنحبها... لماذا يستغرب البعض منا أن لدينا كل هذه القدرة وذلك المخزون من العقل والرحمة والمودة.
المطرية التى يعرفها أهل الكتب كان بها أقدم الجامعات، التى كانت تعلم الدنيا الفلسفة والتحنيط فى مصر القديمة... علوم الحكمة كان المصريون يدرسونها فى هذه المنطقة التى تصورنا أنها أصبحت موطنًا لعبده موتة وأصحابه... هكذا يتخيل الواهمون... لكن أسامة أنور عكاشة حينما رسم تفاصيل حيه الشعبى فى ليالى الحلمية... هو لم يقصد الحلمية فى حد ذاتها... هو اختار الحلمية نموذجًا لكل أحياء مصر الشعبية... وهكذا كان الأمر فى الغورية فى مسلسل أرابيسك... هذه الأحياء لم ترحل من مصر ولم تغادرها... شبرا لا تزال فى مكانها... وإمبابة وبولاق كذلك... أهلنا الطيبون لم يرحلوا... وإن غادروا تركوا جيناتهم على الأعتاب... لسنا طيبين تمامًا... لكننا بشر طيبون... وعندما تستدعى الحاجة أن نعود إلى أرواحنا... إلى أجمل ما فينا نفعل ذلك فورًا وببساطة ودون ترتيب مسبق... وهذا ما فعله أهل المطرية منذ سنوات ويكررونه كل عام فى نفس الموعد فى منتصف رمضان.
صور المصريين المسيحيين فى الشرفات تعلوها صور سيدات مسلمات محجبات جنبًا إلى جنب فى منزل واحد وهم يحتفون بتجمعهم الحميم فى لحظة رمضانية خالصة أذهلت بعض المتابعين... لكنها لم تدهشنى لأننى عشتها فى قريتى ولا يزال أطفال قريتى يعيشونها، رغم كل محاولات السلفنة والأخونة التى مرت على قرانا فى الخمسين سنة الماضية.
كنا أطفالًا بجلاليب بسيطة ملونة نجرى من صباحية ربنا وكل منا يركب نخلة طويلة لنقطع بالمناجل قلوب الجريد الأصفر الطرى لنلقيها تتمطوح وهى ترمى السلام على أطفال قريتنا من المسيحيين الذين جاءوا لأخذ الجريد الذى يستخدمونه فى احتفال أحد الزعف... كنا نحفظ الموعد ونفرح به مثلهم... هو عيدنا... هو احتفالنا مثلما هو الحال مع عاشوراء ومع الحج ومع كل المناسبات المشابهة... حدث ذلك فى أيام السعة مثلما كان يحدث فى أيام القحط... حدث ذلك فى أيام الحرب... وفى أيام السلام... هى أعيادنا... وهذه أيامنا... عشناها ونعيشها وسنظل... المصريون... من يعتقد أنهم تغيروا... عنده حق... ومن يعتقد أنهم لم يتغيروا عنده حق برضه... نتعرض لتقلبات الطقس نعم... تصيبنا نوات ورياح وأتربة وغبار يطمس بعض ملامحنا فى بعض الأحيان نعم... لكن الأصل لا يتغير.
الأصل فى القصة موجود على جدران المعابد وفى كل تفاصيل بيوتنا ومساجدنا وكنايسنا... المصريون أهل توحيد... ووحدة... مصر تجمع ولا تفرق... المصريون شعب يحب الحياة بقدر احترامه وعشمه فى الخلود وفى الحياة الأخرى... هذا هو الدرس الذى يحتاجه أبناء مصر دومًا يعلمونه للعالم ويتعلمونه... وهذا ما أرسله أهل المطرية فى منتصف رمضان من الشوارع الضيقة بالقرب من المسلة القديمة إلى العالم كله وإلى الذين نسوا من أهلنا.
متى نقرر العودة إلى روحنا نفعل... وساعتها نصبح نحن... الجماعة التى يستحيل على تقلبات السياسة والاقتصاد والطقس أن تغيرها... لروحنا نعود ونبقى إحنا... فى لمة إفطار جماعى... أو فى صلاة عيد.