إفطار المطرية والجمال المصرى
الاحتفاء بالإفطار الجماعى فى حى المطرية ليس بسبب كونه حفل إفطار.. ولكن بسبب طابع البهجة والتعاون والتكافل والترابط الذى أحاط به وظلله.. البطل فى الإفطار كان الروح وليس المادة.. المشاعر وليس الطعام.. رغبة الناس فى أن يكونوا معًا وليس الأصناف التى أكلوها على الإفطار.. هذه الروح هى بنت الحضارة التى تكمن داخل المصرى وتتوارى أحيانًا فى أوقات الضغوط والتراجع.. وأظن أن سبب فرحة المصريين بإفطار المطرية أنهم تأكدوا أن هذه الروح ما زالت موجودة وعفية وبخير.. حفل بسيط يكشف عن قدرة الناس على صناعة الفرحة بأقل الإمكانات.. وعلى تجاوز الخلافات فى سبيل هدف واحد.. فكرة بدأها خمسة شباب منذ عشرة أعوام.. مدوا مائدة الطعام وجلسوا يتناولون إفطارهم مع بعضهم البعض أمام منازلهم فى عزبة حمادة مطرية.. فى العام التالى أصبح الخمسة خمسين وفى الذى يليه أصبحوا خمسمائة وفى إفطار هذا العام أصبحوا خمسة آلاف.. الجمال هنا يكمن فى التفاصيل وليس فى أى شىء آخر.. هل تظن مثلًا أن كل مواطن شارك فى الإفطار دفع ثمن إفطاره بالقرش والمليم؟؟ لا طبعًا.. هنا تعمل الخاصية المصرية ويرتفع المثل الذى يقول «المليان يكب على الفاضى»..ويظهر جواره المثل الآخر «اللى معاه يشيل اللى ممعاهوش».. خاصية مصرية فريدة.. لا تعنى أن الآخرين سيئون.. لكنهم لا يشبهون المصريين فى هذه النقطة.. فى الغرب يوجد كثيرون جدًا يقومون بأعمال الخير.. ولكن المواطن العادى قد يجد غرابة فى أن يدفع ثمن وجبة طعام لجاره كى يأكل معه ما دام هذا الجار ليس محتاجًا أو ربما لا يعرفه من الأساس.. حفل الإفطار الذى جرت وقائعه هذا العام يعيدنى لسنوات ماضية فى الثمانينيات حينما كان أهل كل حى وكل شارع وكل حارة يبحثون عن ما يجمعهم.. ما إن يهل رمضان حتى يبدأ أطفال كل شارع فى التجهيز لزينة رمضان.. يدبرون التكاليف القليلة.. ورق الكراريس الأبيض المتبقى من العام الدراسى الذى انقضى.. وحبل دوبارة طويلًا ومادة لاصقة عبارة عن دقيق مخلوط بالماء ومقصًا نحول به الأوراق البيضاء لأوراق مزخرفة ومقصوصة بشكل منتظم.. وبعد لصق الأوراق على الحبال تبدأ مرحلة التعليق واستئذان الجيران.. ثم الانتهاء من تعليق فروع الزينة ليلة رؤية رمضان.. وهكذا تظلل كل شارع أفرع زينة مختلفة تظلل ساكنيه.. كان من المستحيل أن يتشاجر الصبية طوال شهر رمضان لأنهم تعاونوا على صنع شىء جميل.. وأخرجوا طاقتهم فى تجميل الشارع والاحتفال بشهر يحبونه جميعًا.. هذا الاحتفال برمضان كان تعبيرًا عن الشىء المشترك بين جميع المصريين حتى المسيحيين لأنه شهر مبهج لكل المصريين.. هذه الروح الواحدة كانت امتدادًا لسنوات توحد فيها المصريون حول أهداف واحدة وكان آخر هدف موحد هو تحرير الأرض المصرية.. وظلت الروح الواحدة تخفت شيئًا فشيئًا وظهر عملاء ينشرون الفتنة بين المسلم والمسيحى وبين الغنى والفقير وبين الحاكم والمحكوم وبين الشرطة والشعب وبين كل مكون من مكونات السبيكة المصرية وبين الأخرى.. لم يعد المصريون يسكنون فى أحياء واحدة أو أحياء متقاربة كما كان الحال منذ ظهور القاهرة الحديثة.. ولم يعد أطفالهم يدرسون فى مدارس واحدة ولم يعودوا يعالجون فى مستشفيات واحدة ولم تعد لديهم عادات مشاهدة واحدة.. لذلك كثرت الخلافات والنزاعات والإحن والضغائن.. وربما كان إفطار المطرية إشارة فى الاتجاه العكسى.. لذلك فرح به الناس وأحبوه وربما فوجئوا به.. إنه لمحة أخرى من لمحات العبقرية المصرية.. دعاية مجانية فى الصحف والمواقع العالمية.. سفير كوريا الجنوبية الحريص على الاختلاط بالمصريين يحضر الإفطار ويقول إنه صام نهار رمضان حتى يعيش طقس الإفطار كاملًا.. الموقع الإلكترونى لشبكة سى إن إن يحتفى بحفل إفطار المطرية وينقل ملامح الفرحة على وجوه المصريين.. صور الطعام الشهى والمتاح للجميع ترد على دعايات سوداء حاولت أن تصور الوضع فى مصر على غير حقيقته.. المغردون فى الخليج يغردون حول هذه الصورة المصرية بنت الحضارة العريقة ويقول أحدهم: «شعب مالوش كتالوج.. يعرف يفرح وينبسط فى أصعب الظروف وبأقل الإمكانات.. دول المصريين الجدعان.. أهل المطرية متجمعين على أجمل مائدة إفطار بعدد سبعة آلاف صايم تقريبًا».. ويضيف: «الصور مبهجة جدًا ويا رب فرح كل الناس ودائمًا متجمعين على الخير».. إفطار المطرية ليس استثناءً فى حياتنا.. إفطار المطرية هو الأصل.. أصلنا الطيب.. وجهنا الحقيقى الذى وضعنا عليه المساحيق.. كنزنا الحقيقى الذى استقر فى أعماق البحر وغطته الطحالب.. نعم نحن أبناء هذا الجمال المصرى الذى سيزهر ويزدهر ما دمنا سنبقى معًا.