رجال أحبوا مصر.. [7]
جيرار دي نرفال.. واسمه الحقيقي جيرار لابروني، شارع ورحال فرنسي يعتبر رومانسي وكلاسيكي في آن واحد، أسلوبه متقن، يقولون إنه كان مجنونا. أو كانت تنتابه نوبات من الحنون المتقطع.
فرض على نفسه المظهر الكلاسيكي القديم، حررته المغامران والرحلات من جنونه ولد بباريس في 28 مايو 1808؛ ابن طبيب في جيش نابوليون، وأمّ فقدها وهو لا يزال صبيّا في الثانية؛ نشأ وتربّى في مورت لافونتين بإقليم لوفلوا المنمّش بغابات وبحيرات ألهمت الرسّام كورو. شغف بشعر غوته حدّ الجنون وتحمّس للشعر الألماني ليصبح مترجما مذهلا لهذا الشعر (ترجم فوست سنة 1828).
وأثناء رحلته الطّويلة إلى الشرق سنة 1842، ازدادت قناعته بأنّ الحياة الحقيقيّة توجد في آفاق بعيدة أخرى، ولم تكن تلك الرّحلة سفرا عاديّا، فطوال المدة التي استغرقتها رحلته، حاول البحث عن لغة العالم المخفيّة.
قام برحلته الي الشرق في يناير سنة 1842. وصل إلى القاهرة في أعقاب وفاة محمد علي وبداية عصر ابنه عباس. كانت نتيجة تلك الرحلة كتاب بعنوان " رحلة الي الشرق ".
جذبت الحياة الاجتماعية في مصر أنظار جيرار. خاصة الحفلات والموالد والراقصات والعوالم وحفلات الختان ومواكب الجنازات وأسواق النخاسة ولاعبي الأفاعي والدراويش والمصارعين.
دافع جيرار عن الاسلام وحاول أن يدحض الكثير من الافتراءات التي كتبها البعض من كتاب القرن الثامن عشر ومن تلك الافتراءات انه دافع عن تعدد الزوجات فقال” انه أفضل بكثير مما يفعله القساوسة في اوروبا الذين يتخذون لهم العديد من العشيقات’.
وقد حرص جيرار على تعلم اللغة العربية مما مكنه من الاطلاع على التراث الإسلامي وأعجب بتسامحه مع الأديان الأخرى واكد على تسامح المصريين وانسانيتهم وبالوفاق السائد في مصر بين المسلمين والأقباط واشتراك الجميع في جميع الاحتفالات الاسلامية والوطنية.
.
قبل أن يصل جيرار دي نرفال الى القاهرة قام بالاطلاع على العديد من الكتب والوثائق، ولما وصل الى القاهرة كان يتردد بانتظام على مكتبة أنشأها الفرنسيان بريس دافن والدكتور أبوت، وكان بالمكتبة كتب تتحدث عن مصر، وكانت تلك المكتبة ملتقي المثقفين الأوروبيين في القاهرة.
وكان قبل وصوله الى لديه تصور خاص عن القاهرة ألف ليلة وليلة، ويعتقد ان أنه كان يعيش فيها حياة سابقة.
كانت رحلته ضرورية لنقاهته الروحية ورغبته لإشباع رغبته القديمة والدفينة للهروب من فرنسا.
كما تردد نرفال على صيدلية كاستانيول، وكان يلتقي فيها مع أشخاص من أصل فرنسي هوايتهم الحديث مع مسافرين عابرين لجمع التذكارات عن الوطن، وكان نرفال يرى كل كراسي الصيدلية والمصاطب الموجودة خارجها مليئة بشرقيين حاملين النجوم اللامعة على صدورهم، ويتحدثون الفرنسية. وكان من أسباب الزحام وجود محطة بريد قريبة. كانوا ينتظرون الخطابات والأخبار التي تصل في البريد.
كانت مصر وقتها محطة للرحالة والمغامرين والجواسيس الأجانب والذين بدئوا في التوافد على مصر من الدول الأوروبية وعلى الأخص فرنسا وبريطانيا بعد النهضة التي أحدثها محمد علي.
بدأ نرفال رحلته من باريس الى مصر بالباخرة، قبل أن ترسوا الباخرة في الميناء يستقبل التراجمة القوارب، ويحاولون الصعود إلى الباخرة لالتقاط الأجانب الراغبين في اصطحاب تراجمه لمرافقتهم في رحلتهم داخل البلاد، ومساعدتهم في التعامل مع رجال الحكومة والأهالي.
يعد الترجمان في ذلك الوقت بمثابة المرشد السياحي للأجنبي. ومن هؤلاء التراجمة صعد الترجمان عبد الله الذي رافق جيرار دي نرفال أثناء رحلته في مصر.
صعد الترجمان عبد الله للباخرة بمجرد وصولها الى مياه الإسكندرية في قارب مخصص له، وكان عبد الله ككل التراجمة في ذلك الوقت محاطا بالأبهة والفخامة، وكان معه طاقم لمعاونته مكون من، مساعد ترجمان حديث السن وزنجي يحمل له غليونه ويقوم على خدمته.
لم يكن من بين القادمين على متن الباخرة ركاب من الإنجليز، وهو ما جعل عبد الله يقبل على مضض مصاحبة الفرنسي جيرار، فقد كانت نظرة التراجمة الى الفرنسيين باعتبارهم أقل شأنا من الإنجليز.
كانت نتيجة رحلته الى مصر كتاب " الرحلة الى الشرق " وهو ليس مذكرات، وإنما هو حكايات، أعدها نرفال ببراعة فائقة بعد عودته الى فرنسا، انطلاقا من ملاحظات مدونة، ومن ذكرياته التي جمعها. الكتاب له مقدمة طويلة تقدم انطباعات عن النمسا واليونان، والكتاب يلامس لحظات الإلهام التي اجتاحت نرفال، وضع فيه كل حياته الواقعية.
وصل الإسكندرية في 15 يناير 1843. ثم استأنف رحلته عبر نهر النيل حتى وصل الى ميناء بولاق في 25 يناير، قضى في القاهرة ثلاثة أشهر، ثم فكر في السفر للصعيد، ولكنه لم يكمل رحلة، فقد كان الجو شديد الحرارة مع نهاية شهر ابريل وبداية مايو، فلم يحاول الخاطرة بالذهاب الى مصر العليا.
كانت المساجد تشده أكثر من قبور الفراعنة. وكان يرى أن هناك سر غامص وراء نقاب النساء اللائي لا ترى منهن إلا أقراط الأذن ونظرة خفية من عيون سوداء.
يقول نرفال أنه في ليلته الأولى في القاهرة كان الحزن أن يقتله، وأن القاهرة احبطته، عندما بدا يغوص في الأزقة المعقدة للشوارع الضيقة المتربة عبر زحام المارة بملابسهم المتواضعة، وتكاثر الكلاب والجمال مع اقتراب المساء الذي تهبط ظلاله سريعا بفضل الغبار الذي ينعقد في السماء وفي أعالي البيوت.
كان لديه شعور بالإهمال والوحدة والسجن، وبانه مقيد الخطى، ولكن مرور موكب من مواكب الأفراح الصاخبة المضيئة أمامه، فتح له منظورا آخر أنعش روحه.