رمضان كريم فى مسجد مصر
رمضان كريم
من مميزات مصر الإلهية أن للأشياء فيها طعمًا آخر عن أى مكان فى العالم.. أذكر حين جئت فى الطفولة فى إجازة من دولة عربية شقيقة لقضاء شهر رمضان فى مصر.. عرفت لأول مرة معنى أن يكون الشارع حيًا.. فيه حركة.. وناس.. وسلامات.. ونكات.. وقفشات.. وشاهدت لأول مرة «زينة رمضان» أوراقًا ملونة أو بيضاء.. يتم قصها بشكل مزخرف ثم لصقها فى حبال طويلة تعلق بطول الشارع إيذانًا وابتهاجًا بمجىء رمضان.. وعلى جانبى الحبل أو أحد جانبيه يعلق فانوس رمضان.. وعلى ناصية الشارع ينصب بائع ما «فرن الكنافة» يبنيه بمعنى أصح.. ويقف ليصنع عجينة الكنافة ساخنة وطازجة أمام من يريد أن يشترى.. ترسلنا الأمهات بعد العصر لشراء «كيلو كنافة» ويصنعن صينية كنافة ساخنة فى الفرن محشوة بالزبيب والفول السودانى.. وجوز الهند.. صينية بسيطة.. متقشفة.. بلا بهرجة.. ولا إسراف.. ولا كذا ولا كذا.. من المكونات الغريبة.. لكن هذه الكنافة «البيتى» كانت تحمل لنا معنى السعادة واللمة والونس والرضا.. وقد أدركت بعد سنوات طويلة أن هذه المشاعر هى الثروة الحقيقية وهى الغنى الحقيقى.
مسجد مصر
الإحساس بخصوصية مصر عاد لى فجر الأمس وأنا ألبى دعوة لصلاة الفجر فى «مسجد مصر» وحضور حفل افتتاح المسجد هو و«مركز مصر الإسلامى».. مشاعر متباينة ومتنازعة أيضًا أحسست بها.. منها الإحساس بالفخر.. فهذا المسجد يضاهى روائع العمارة الإسلامية فى مصر مثل «مسجد السلطان حسن» ومسجد «الرفاعى» الذى بناه الخبير عباس حلمى الثانى.. وهو من حيث الإنسان وهيبة البناء ونظام الأروقة امتداد حديث للجامع الأزهر أو ظهير له وهو بين مساجد العالم الإسلامى علامة بارزة و«درة» فريدة من الصعب تكرارها فى العالم الإسلامى كله.. من إسطنبول لطهران.. ومن بغداد إلى طنجة.. هذه نقطة مهمة جدًا.. لذلك لم يكن غريبًا أن يتم توجيه الدعوة لسفراء الدول الإسلامية فى مصر كى يشاركوا فى افتتاح هذا المسجد الذى يقترب من كونه تحفة معمارية عظيمة ويفخروا بما أضافته مصر لفن المعمار الإسلامى ولمساجد العالم الإسلامى بشكل عام.. أعترف بأنه انتابتنى نفس الفكرة التى ربما يفكر فيها الجميع والتى سيستخدمها البعض فى تشويه هذا الإنجاز الكبير.. ألم يكن أولى توجيه هذه النقود للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية؟ وجدت نفسى بعد تفكير أجيب عن السؤال بالتالى.. أولًا.. البناء والتخطيط بدآ قبل ظهور أزمة كورونا ثم شقيقتها الأزمة الروسية الأوكرانية وبالتالى كانت الأولويات مختلفة وكانت استثمارات مصر موجهة لإعادة إطلاق القاهرة كمركز مالى واقتصادى عالمى فى الشرق الأوسط.. وكان هذا يستدعى استثمارات فى البنية التحتية والمبانى لتحقيق هذا الهدف.. وعندما داهمتنا الأزمة ونحن فى منتصف العمل كان لا بد أن نستمر.. وقد ظهر المسجد وعشرات المشاريع الأخرى على أروع ما يكون.. وهذا يحسب للدولة لا عليها.. ففى الدول الفاسدة.. يمكن سرقة الأموال المخصصة للمشاريع والتوقف عن إنشائها بحجة وجود أزمة.. أما فى مصر فلن يمنعنا مانع.. وخطة تحويل مصر لمركز اقتصادى عالمى ماضية فى طريقها رغم الصعاب.. ومن يدّعى أن مصر الآن هى مصر نفسها منذ تسعة أعوام كاذب لئيم ومدعٍ ضئيل.. مصر تغيرت وستتغير للأفضل بعد انتهاء الأزمة العالمية بإذن الله.
سؤال من «تنويرى»
قررت أيضًا أن أفكر وكأننى «تنويرى» متطرف أو «مدعى تنوير» بمعنى أصح.. وقلت لنفسى لماذا تنفق الدولة هذا المبلغ الكبير لبناء مسجد؟ أليس هذا خدمة للاتجاهات الدينية والمتطرفة؟
أجبت نفسى أن هذا الكلام كلام فارغ ولا علاقة له بالتنوير.. لأن أول خطوة لهزيمة الجماعة الإرهابية وأشقائها من التكفيريين هى سحب سلاح الدين الذى يخدعون به البسطاء من أيديهم.. فهذه الجماعات بنت سطوتها ومجدها على أن الدين فى خطر.. وأن الحكومات المتعاقبة تحارب الدين.. وهذا ما دفع البسطاء لتصديقها فى فترة من الفترات.. والحقيقة أن المصريين جميعًا، مسلمين ومسيحيين، متدينون منذ فجر التاريخ.. والصحيح أن تدعم الدولة التدين المصرى السمح والمستنير.. الذى يجعل حياة الناس أسهل وأفضل.. وقد انتبهت دولة يوليو لهذه النقطة فى صراعها مع الإخوان المسلمين.. فأسست إذاعة القرآن الكريم وطورت الأزهر.. ثم تتالت عصور مختلفة وجاء الرئيس السيسى بفكر أقرب لتيار الإصلاح الدينى الذى أسسه الإمام محمد عبده وبنزعة صوفية اكتسبها من حياته فى حى الحسين ومن أسرته.. واهتمامه بالمساجد هو اهتمام حضارى بالأساس.. بمعنى أنه يهتم بالدين عمومًا كإحدى مفردات الحضارة المصرية.. ولم يكن غريبًا أن يتلألأ مبنى الكاتدرائية الجديدة بالأنوار على بعد دقائق قليلة من مسجد مصر.. فى رسالة واضحة لا تخطئها العين ولا القلب.. رمضان كريم وكل عام ونحن طيبون.