وادى السيليكون.. تميمة الحظ الأمريكية
كتبت الأسبوع الماضي عن أزمة بنك «وادي السيليكون»، الذي يقف وراء شركات التكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ويدعم مسيرة تطورها، حتى باتت المنطقة التي اتخذ منها البنك اسمه، «وادي السيليكون»، الملهمة لأجزاء أخرى في العالم، مثل تلال السيليكون لأوستن، تكساس، ولكن لا أحد حتى الآن استطاع محاكاة هذا الوادي، مسقط رأس شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل فيسبوك وجوجل وأبل، حيث تعمل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وخدمات البريد الإلكتروني والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر على تشغيل حياتنا اليومية.. وفي الحقيقة، يرفع وادي السيليكون مجموعة من الشعارات منها: العلم أولاً، والفشل مقبول، وغير ذلك من الأفكار التي تؤمن بأن الابتكار لا حدود له على الإطلاق، وأن الأفكار بإمكانها أن تكون حقيقية مهما استغربها البعض أو استبعد احتمالية تنفيذها.. فما هو وادي السيليكون؟.. ولماذا سمي بهذا الاسم؟.. وما هي أسباب نجاحه؟
وادي السيليكون، Silicon Valley، منطقة جنوب سان فرانسيسكو، بكاليفورنيا وتشتهر بعدد كبير من شركات الكمبيوتر.. احتل في البداية وادي سانتا كلارا، ثم امتد شمالاً حتى بالو ألتو، وهو يمتد 25 ميلاً جنوباً إلى سان خوسيه، ثم اتسع للمدن المجاورة، ويمكن اعتبار منطقة خليج سان فرانسيسكو بأكملها وادي السيليكون.. قبل دخول شركات الكمبيوتر والإلكترونيات للمكان، كانت المنطقة تعرف باسم «وادي القلب المبهج»، في أوائل القرن العشرين، نظراً لبساتين الفاكهة التي كانت تملأ حقولها.. ولا يعرف أحد على وجه اليقين من الذي صاغ لقب وادي السيليكون بالضبط، ولكن تم تعميمه من قبل مراسل التكنولوجيا المسمى دون هوفلر في السبعينيات، وسمي «وادي السليكون»، نظراً لرقائق السيليكون المستخدمة في الحواسيب والهواتف المحمولة، وقد أصبح الآن لا يعبر عن مكان أو شيء مادي فقط، إنما يمثل عالم تكنولوجيا المعلومات والثروة التكنولوجية.
منذ أوائل القرن العشرين كان وادي السيليكون موطناً لصناعة الإلكترونيات، حيث بدأت تلك الصناعة من خلال التجريب والابتكار في مجال الراديو والتليفزيون والإلكترونيات العسكرية.. وفي هذه الحقبة لعبت جامعة ستانفورد والشركات التابعة لها وخريجيها دوراً كبيراً ورئيسياً في هذا المجال، في وقت لعب الصراع بين الشرق والغرب، دوراً كبيراً في تطور وادي السيليكون، إذ في تسعينيات القرن التاسع عشر رأى قادة «ستانفورد» أن مهمتهم خدمة الغرب، وبالتالي شكلوا هدفهم وفقاً لذلك.. وهكذا ساعدت الإقليمية على مواءمة مصالح ستانفورد، مع مصالح شركات التكنولوجيا العالية، خلال السنوات الخمسين الأولى من تطوير وادي السيليكون.
وخلال الأربعينيات والخمسينيات، شجع فريدريك تيرمان ـ الأب الروحي لوادي السيلكون ـ الذي كان يشغل منصب عميد كلية الهندسة، والبروفيسور ف. ستانفورد أعضاء هيئة التدريس وخريجي الجامعة على البدء في تدشين شركاتهم الخاصة.. ويرجع الفضل إلى تيرمان في تشجيع مجموعة من الشركات الناجحة في مجال التكنولوجيا الفائقة، لذا فغالبًا ما يطلق على فريدريك تيرمان لقب «والد وادي السيليكون».. وقد شهد وادي السيليكون تطوير الدائرة الكاملة القائمة على السيليكون، والمعالج الدقيق والحواسب الصغيرة، لقد تم تشكيل وادي السيليكون كمحيط من الابتكارات، وذلك من خلال التقارب في موقع واحد للمعرفة التكنولوجية الجديدة، مع مجموعة كبيرة من أمهر المهندسين والعلماء من الجامعات الكبرى بالمنطقة، وتمويل سخٍ من سوق مضمونة مع وزارة الدفاع الأمريكية، وتطوير شبكة فعالة لشركات رأس المال الاستثماري والقيادة المؤسسية لجامعة ستانفورد في المرحلة المبكرة جداً.
بعد الحرب العالمية الثانية، عاد الطلاب بقوة للجامعات.. ومن أجل توفير فرص عمل للطلاب والخريجين بجامعة ستانفورد، وللتغلب على المتطلبات المالية الآخذة في النمو، اقترح فريدريك تيرمان تأجير أراضي ستانفورد واستخدامها كمُجمع للمكاتب، وسُميت حديقة ستانفورد الصناعية لاحقاً بحديقة ستانفورد للأبحاث.. واقتصرت عقود الإيجار على شركات التكنولوجيا العالية، وكانت شركة فاريان أسوشيتس، التي أسسها خريجو ستانفورد في ثلاثينيات القرن العشرين، لبناء مكونات الرادار العسكري أول المستأجرين.
بعد هذه الحرب، شغل تيرمان منصب عميد كلية الهندسة، ومن ثم شجع أعضاء هيئة التدريس على شغل مناصب رؤساء مجالس إدارة الشركات الجديدة، واستخدم اتصالاته في واشنطن للحصول على المنح الفيدرالية للبحوث المدرسية، وأسس حديقة ستانفورد الصناعية للربط بين ستانفورد والشركات المحلية، وقامت الجامعة بتأجير الأراضي لشركة فاريان أسوشيتس وإيستمان كوداك وهيولليت باركارد.. وفي عام 1955 أصبح تيرمان وكيلًا لجامعة ستانفورد، وقام بتوسيع الحديقة لتشمل شركات التكنولوجيا الحيوية، التي أصبحت فيما بعد، وادي السيليكون، الأشهر في العالم، بفضل دأب جامعة انتصرت للفكرة.
ثمة مجموعة من الأسباب لنجاح وادي السليكون، أولًا، السبب الرئيسي هو روح التعاون، على سبيل المثال، ذهب العديد من مؤسسي الشركات المحلية للدراسة معًا، وهو ما جعلهم يقومون بالترويج لبعضهم البعض، بغض النظر عن الشركة، حيث تتغلب الولاءات الشخصية على الشركات، وقد أدت الشبكات المهنية إلى سهولة تبادل المعلومات، ووجدت الشركات أن التعاون بينها جعلها أكثر نجاحًا.. ثانيًا، ألغت ولاية كاليفورنيا البنود غير المتنافسة، ونتيجة لذلك يمكن للأشخاص مغادرة الشركة لبدء أعمالهم الخاصة لاختبار الأفكار الجديدة.
ونتيجة لذلك يركز الموظفون على مساعدة بعضهم البعض لحل المشكلات.. وفي الحقيقة، لا يمكن لأي شيء أن ينجح في العالم، إلا من خلال وجود قوانين واضحة لتنظيم هذا الشيء، القانون هو الذي يضمن حقوق الجميع وهو الذي يوفر العدالة.. ثالثًا، التنوع الثقافي، فبين عامي 1995 و2005، أسس المهاجرون أكثر من نصف المشاريع الناجحة بوادي السيليكون، حيث يجذب الوادي كبار المهندسين من مختلف دول العالم، لاسيما الهند والصين، وهذا التنوع أدي إلى الابتكار وتركيز الجميع على أهدافهم المشتركة.. رابعًا، لعبت الجامعات دوراً ايجابياً، إذ تحيط الجامعات الراقية بـSilicon Valley، حيث تخرج عدد كبير من مؤسسي الشركات في جامعة ستانفورد، وقد ساهمت جامعات محلية أخرى بطواقم دعم فني مدربة، بما في ذلك جامعة كاليفورنيا في بيركلي.. كان للجامعة دور كبير في نجاح وادي السيليكون، من حيث استراتيجيتها المُتبعة في تعليم وتأسيس الطلاب، فعلى سبيل المثال، تُعلم الجامعة أبنائها، أن الفشل ليس نهاية العالم وأنه مقبول، وألا يلتفت الطالب لآراء الآخرين فتكون بمثابة قيد له.. خامسًا، يمد الناجحون من المهندسين ورجال الأعمال بوادي السيليكون، يد العون لأصحاب المشاريع الناجحة والطلاب، من خلال إمدادهم بأسباب النجاح والفشل، وكذلك تقديم الدعم المالي والتبرعات.
الجميع في وادي السيلكون يؤمنون بأن تقديم المساعدة يمثل عنصر من العناصر، التي تساعد الكثيرين في إنجاز مشاريعهم، وهذا يعود بنتائج إيجابية على الجميع.. سادسًا، تقدم الحكومة الأمريكية دعمًا كبيرًا للأبحاث بجامعة ستانفورد، وكان لهذا الدعم دور كبير في نجاح وادي السيليكون.. فمما لا شك فيه، أن الدور الحكومي له أثر كبير في النجاح، فلولا الحكومات الواعية التي تؤمن بدور العلم والتكنولوجيا، لما كان لهذا النجاح أن يتحقق.. هذه الحكومة تقدم أحيانًا التمويلات، وأحيانًا أخرى تسن القوانين المساعدة على الحرية الابتكارية، هذا إلى جانب تسهيل إجراءات التراخيص وإنشاء الشركات، وحفظ حقوق براءات الاختراع.
وأخيرًا، فإن وادي السيليكون يمثل ميزة تنافسية للولايات المتحدة الأمريكية، لأنه يتم استخدامه كمرادف لقطاع التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، وعلى الرغم من تطوير المراكز الاقتصادية الأخرى ذات التقنية العالية بجميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، فلا يزال وادي السيليكون يحتل المركز الرئيسي للابتكار والتطوير في مجال التكنولوجيا الفائقة، حيث يمثل ثلث الاستثمارات في الولايات المتحدة الأمريكية، وما زال وادي السيليكون يبهر العالم بما يقدمه من تكنولوجيا عالية وفائقة تفوق التوقعات، وما زال يجتذب كبار رجال الأعمال وصغارهم، وكل النابغين من المبرمجين والمهندسين المبتكرين، حتى أصبح تميمة حظ لكل من يعمل على أرضه.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.