المزايدون على جهود مساعدة الفقراء لا يعرفونهم
أخطر ما يواجه قطاعات من النخبة أن تفقد القدرة على الرؤية الموضوعية بعيدًا عن العاطفة، وأن تسود أحكامها نزعة انفعالية فاقدة للصبر وللقدرة على تحليل الواقع تحليلًا علميًا يستند إلى الحقائق لا إلى الأمنيات وإلى المعلومات لا إلى المشاعر وإلى المنطق لا إلى الشعارات.. أما الخطر الأعظم فأن يتحول الكثيرون إلى قطيع ينساق وراء دعايات الجماعة الإرهابية وبعض الأبواق المستأجرة فى الخارج دون وعى منهم أو لمجرد التنفيس عن مشاعر الإحباط أو عدم الرضا بالواقع...
قفز هذا المعنى إلى ذهنى وأنا أتابع تفاعل بعض شخوص النخبة على حدثين شهدهما يوم الجمعة الماضى.. أولهما فعالية «كتف بكتف» التى تهدف لتدشين نشاط خيرى يقوم به «التحالف الوطنى للعمل الأهلى» لتوفير قدر كبير من المساعدات الغذائية للأسر الأولى بالرعاية وفق بيانات مسجلة فى الجمعيات الخيرية المصرية ووزارة التضامن منذ سنوات طويلة.. وكان ما يثير الحزن أن ينساق البعض لترديد دعايات الإرهابيين حول الحدث واعتباره مؤشرًا لزيادة معدل الفقر بين يوم وليلة! وبدلًا من وضع الحدث فى سياقه وتحديد إيجابياته وسلبياته فوجئنا بنوع من الابتذال والسخرية فى الطرح وكأن وجود الفقراء فى مجتمعنا مفاجأة مثلًا! أو كأن وجود ٣٠٪ من المصريين تحت خط الفقر منذ الثمانينيات وحتى الآن أمر غير معروف لمن أبدوا تأففًا غير مفهوم من جهد خيرى يعرفه المجتمع منذ عقود لإطعام المسكين الذى هو إحدى فضائل الدين التى ترتبط بشهر رمضان أكثر من غيره من الشهور... قمة الإساءة والابتذال بالفعل أن يجلس عضو لجنة إلكترونية فى فندق بأوروبا ليقلل من جهود شباب يعمل على الأرض لتعزيز مفهوم الحماية الاجتماعية للفقراء، والأكثر ابتذالًا أن يجلس نخبوى غاضب لسبب ما فى شرفة منزله بالتجمع أو المهندسين ليسخر من جهود إطعام الفقير التى يقوم بها مئات الآلاف من المتطوعين بدعم وإشراف من الدولة لتعزيز السياسات الحمائية للفقراء.. والحقيقة أن مبتذلى الداخل لا يقلون جرمًا عن مبتذلى الخارج سوى فى اختلاف دوافع كل منهم وإن كانوا يشتركون معهم فى الجهل بالواقع والتعالى على الفقراء والاكتفاء بتحقيق المكاسب على حسابهم والمتاجرة بهم مع من يدفع سواء فى أسواق الإسلام السياسى أو فى أسواق الليبرالية الغربية أو اليسار الأوروبى...إلخ.. والحقيقة التى سأخدش بها إحساس هؤلاء الجهلاء أن الفقراء موجودون فى مصر منذ قرون.. وأن شروط التخلف التاريخى لم تسمح لأى نظام حكم فى مصر بالقضاء الكامل على الفقر.. وقد كان عميد الأدب العربى طه حسين يتحدث عن ضرورة القضاء على الفقر والجهل والمرض التى تسيطر على معظم سكان مصر إلا من رحم ربى.. وكان المفكر سلامة موسى يكتب أن متوسط دخل المصرى فى منتصف الثلاثينيات لا يسمح له بالحياة الكريمة... ومنذ عقدين على الأقل تقول إحصاءات الجهاز المركزى للإحصاء إن ثلاثين فى المئة من المصريين يعيشون تحت خط الفقر.. وما زلت أذكر معارك بعض الكتاب مع د. عثمان محمد عثمان وزير التخطيط فى حكومة د. أحمد نظيف ٢٠٠٤ حول مفهوم الفقر ومن هو الفقير ولماذا زادت نسبة الفقراء وقتها لتلك الدرجة؟.. والمعنى أن الفقر ليس حقيقة جديدة فوجئ بها أدعياء النخبة من قاطنى الأحياء الراقية ليلوموا التحالف الوطنى على جهوده فى التخفيف منها ولينساقوا كالخراف وراء دعايات الجماعة الإرهابية المضارة جدًا جدًا من توزيع المساعدات العينية على المستحقين... لماذا تضار الإرهابية وتشعر بالغيرة والحزن من هذا النشاط بالذات؟ أنا أقول لك عزيزى المدعى النخبوى... توزيع الإعانات على الفقراء كان أداة الإخوان السحرية للسيطرة على الشارع فى غيبة دولة مبارك.. كان أداتهم لامتلاك قلوب البسطاء والادعاء أنهم الوحيدون الذين يشعرون بهم.. كان أداتهم لتسجيل الأسماء والعناوين وضمها لقواعد بيانات الجماعة.. كان أداتهم لتجنيد البسطاء الذين لم يجدوا من يسأل عليهم غير الإخوان... ولأن الدولة تغيرت وصارت أكثر وعيًا وفهمًا وحذقًا.. فإنها نزلت إلى الناس عبر تحالف يضم كل الجمعيات الخيرية القديمة مضافًا إليها متطوعو «حياة كريمة» وهم شباب مصرى مخلص، ومضافًا إليها أيضًا عشرة مليارات جنيه دعمًا وفرته الدولة للعمل الخيرى عبر قنواتها المختلفة... هؤلاء اجتمعوا فى الاستاد ليعززوا سياسات الحماية الاجتماعية للفقراء التى تنفذها مصر فعلًا وبلغت تكاليفها هذا العام ٤٩٠ مليار جنيه مصرى توجه لمستحقى معاشات تكافل وكرامة وغيرها من بنود إنفاق... ماذا تفعل «كرتونة رمضان» إذن؟ إنها بمثابة علاوة رمضانية توجه لمستحقى هذه المعاشات التى نعرف أنها بسيطة وتقول لهم إن الدولة لن تتخلى عنهم ولن تترك مصريًا واحدًا يشعر بالجوع أو الاحتياج... وإنها ستمول هذا من أموال خارج الموازنة العامة للدولة هى أموال العمل الخيرى.. فلماذا يغضب النخبويون المدعون من سكان الأحياء الراقية؟.. وماذا قدموا هم للفقراء من عمل أو جهد؟.. إنهم لم يفعلوا شيئًا سوى مراكمة مكاسبهم واللعب على كل الظروف والنظم والرؤساء إما بالنفاق أو بالابتزاز.. إما بالتأييد بحثًا عن مكسب أو بالمعارضة بحثًا عن مغنم.. والتاريخ معروف ومكتوب ومصر كلها «عارفة بعضيها» كما يقول المثل العامى الشهير... أما قضية الفقر نفسه وارتباطه بالأمية وعدم التعليم والزيادة السكانية.. فهذا حديث آخر لا يفهمه المدعون ولا يشغلون أنفسهم به من الأساس... وسنواصل الحديث فيه وعنه فى قادم الأيام.