أجانب أحبوا مصر «4»
جان فرانسوا شامبليون
عشق جان فرانسوا شامبليون لمصر لم يكن مقصورا على تاريخها وآثارها، وإنما أولا لشعبها، يقول المؤرخ جان لاكوتير: نراه يهتم بشغف كبير بهذا الشعب الوريث البعيد لتاريخ كله عظة، إلا أن حالته الحالية تؤثر فيه بعمق، تفانى شامبليون في حبه لمصر، وأعطاها طاقته وصحته وفكره. ومات شابا في الثانية والأربعين رغم مظهره القوي .
كان شامبليون لا يتحرج أثناء حياته اليومية في صعيد مصر من تقديم نصائحه للفلاحين، لكي يتفادوا المضايقات التي كانوا يتعرضون لها من قبل السلطات المحلية، أو لكي يتفادوا تسديد بعض الضرائب المجحفة، وعلى الرغم من أن ذلك لم يكن ليخفي عن عيون جواسيس محمد علي باشا.
هناك شارع باسمه في قلب القاهرة يبدأ من ميدان التحرير وهو مركز القاهرة المروري والسياسي والتجاري، بقطعة أرض تواجه المتحف المصري، وينتهي خلف مبنى دار القضاء العالي وواجهة نقابة الصحفيين.
في أغسطس عام 1799 اكتشف ملازم من سلاح المهندسين التابع للحملة الفرنسية حجرا من البازلت الأسود بين أطلال قلعة قديمة كان يقوم بترميمها. الحجر نقشت عليه نصوص مكتوبة بثلاثة أنواع من الحروف، الإغريقية، الهيروغليفية، والديموقيطية (كتابة مصرية قديمة تختلف عن الهيروغليفية).
وُلِد شامبليون في 23 ديسمبر عام 1790 في مقاطعة فيجاك الفرنسية، ونظرا لاضطراب الأحوال السياسية في البلاد في أعقاب الثورة الفرنسية (1789-1799)، لم يستطع الالتحاق بالتعليم الرسمي، فوجهه شقيقه الأكبر جاك-جوزيف نحو تلقى دروس خاصة فى اللغتين اللاتينية واليونانية، ثم انتقل إلى مدينة غرونوبل للالتحاق بمدرسة ثانوية، وكان شقيقه يعمل باحثا في معهد البحوث الفرنسي، وبدأ شامبليون في سن 13 عاما الاهتمام بدراسة اللغات الشرقية، من بينها العربية والسريانية والعبرية.
قام برصد مشاهد من الحياة اليومية في مصر، ووصف بدقة مشهد الاحتفال بالمولد النبوي بالقاهرة قائلا:
كان ميدان الأزبكيه الهام والفسيح يعج بالناس، تتوسطه مياه راكدة من الفيضان، تلتف الجموع حول المهرجين والراقصات والمغنيات. كانت هناك خيام جميلة منصوبة تمارس فيها طقوس العبادة. مسلمون كثيرون جالسون يقرأون سورا من القرآن بإيقاع معين، ومسلمون آخرون يصل عددهم ثلاثمائة شخص مصفوفون في خطوط متوازية، يميلون نصف قدهم الأعلى الى الأمام والخلف كعرائس ذات مفصلات، قائلين في صوت واحد: لا إله إلا الله، وفي مكان بعيد عن هؤلاء الذاكرين يصطف خمسمائة ممسوس في دائرة يقفزن الى أعلى قائلين وصارخين من أعماقهم كلمة (الله)، ومرددين إياها نحو ألف مرة بصوت مدو، لم أسمع قط في حياتي جوقة تردد بأعلى منه. صخب رهيب كأنه منبعث من أعماق الجحيم، والى جانب تلك المناظر الدينية كان هناك موسيقيون وبائعات هوى يتجولون. كانت هناك أيضا ألعاب تشهد رواجا عاليا، هذا الخليط من الممارسات الدينية والألعاب مع غرابة الوجوه وتنوع الملابس شكلت معا مشهدا غريبا لن أستطيع نسيانه، ولكن ليس لهذ الغرض قدمت الى مصر.
درس شامبليون باستمتاع شديد الصور الشهيرة التي تمثل مشاهد الحياة اليومية المدنية والريفية، وهو أول من أبرز أهمية مقابر بني حسن بالنسبة لتاريخ الهندسة المعمارية في هذه المنطقة.
أمام أروقة مغارات بني حسن نبتت في ذهنه نظريته عن الأصل المصري للعمود اليوناني البدائي، كما وجد تأييدا لها في معبد الدير البحري تحت أرضية طيبة، ليس لهذا الغرض.
أثناء إقامته في البر الغربي أقام في بيت مبني من الطين، ثم أقام في قبر رمسيس الرابع الخالي والمتهدم في مدخل مدينة الموتى بوادي الملوك، وكان في كل الأحوال راضيا عن قدره.
كتب لوالده يقول "شاء الحظ أن يذبحوا لي تمساحا صغيرا صباح أمس، وأحضروا لي طبقا من لحم التمساح بصلصة حارقة، اعتمدت كثيرا على هذا الطبق للإبهار" غير أنه ما لبث أنا أضاف في نهاية الخطاب "فسد طبق التمساح أثناء الليل وأصبح لون لحمه أخضر وله رائحة كريهة".
وفي عام 1828 كتب كتب شامبليون رسالة إلى شقيقه الأكبر من مصر قال فيها: "إن كياني كله لمصر، وهي لي كل شيء"، لخّص فيها عشقا خاصا ومتلازمة جمعت بينه وبين مصر، في حياته عبر دراسة لغتها وتاريخها العريق، وعند موته عندما ربط البعض سبب وفاته بزيارته لها وتأثير مناخها على صحته.
خلال مسيرة شامبليون حقق الكثير من الإنجازات، ولعل أبرزها أنه فك رموز اللغة المصرية القديمة بعد استعانته بحجر رشيد الذي كان قد اكتشف أثناء الحملة الفرنسية على مصر، فقد نقش على الحجر نص بلغتين وثلاث كتابات: المصرية القديمة ومكتوبة بالهيروغليفية والتي تعني الكتابة المقدسة، لأنها كانت مخصصة للكتابة داخل المعابد، والديموطيقية وتعني الخط أو الكتابة الشعبية، واللغة اليونانية بالأبجدية اليونانية، ومن خلال المقارنة بينهم نجح في فك طلاسم الكتابة الهيروغليفية.
وبفضل اكتشاف شامبليون للغة الهيروغليفية، أصبحت مصر القديمة تتحدث عن نفسها وتظهر أسرارها التي خبأتها قرون طويلة، لأكثر من سبعة عشر قرنا.