عيوب الذات القومية
من وجهة نظرى الخاصة فإن معرفة أى أمة لعيوبها لا تقل أهمية عن معرفتها بمناقبها وتغنيها بها، فمعرفة العيوب هى أول الطريق للتقدم فى طريق النهضة، بعد العمل على علاج العيوب المشتركة والتى تمنع البلاد من التقدم أو تحقيق الأهداف المرجوة بسبب العيوب التى تتمكن من أغلبية أفرادها وتشكل طابعًا عامًا للمجتمع ككل، وأظن أن حصر هذه العيوب والعمل على علاجها هو أول الطريق لعلاج «المشكلة المصرية» التى استعصت على الحل عبر عقود متتالية والتى يمكن اختصارها ببساطة فى أن إنتاجنا أكثر من استهلاكنا ووارداتنا أكثر من صادراتنا ومصاريفنا أكثر من دخلنا وكلامنا أكثر من فعلنا وجهلاءنا أكثر من متعلمينا وكل محاولاتنا للنهضة والانطلاق تُجابه بانتكاسات وهزائم بعضها مسئوليتنا وبعضها خارج عن إرادتنا.. والحقيقة أن مراجعة التاريخ تكشف أن النهضة التى شهدتها مصر فى العشرينيات سبقتها مراجعات وأحاديث عن عيوب الشخصية المصرية ربما مهدت الطريق لهذه النهضة التى لم تستمر للأسف هى الأخرى وانتهت على يد تنظيمات الإرهاب الإخوانية والفاشية التى أحدثت فوضى كبيرة استدعت تدخل الجيش وقيام ثورة يوليو.. من أمثلة هذه الكتابات مقدمة القاضى فتحى زغلول «شقيق سعد زغلول» لترجمته لكتاب هام للغاية وهو «سر تقدم الإنجليز الأنجلو سكسون» والتى صدرت فى مصر ١٨٩٩ والبلاد تكاد تفيق من صدمة الاحتلال الإنجليزى وهزيمة العرابيين التى أعقبها صمت عام بين المصريين عمومًا والنخبة المتعلمة خصوصًا.. فى مقدمة الكتاب استعار القاضى فتحى زغلول منهج مؤلف الكتاب الفرنسى «ادمون ديمولان».. وحاول تحديد عيوب الشخصية المصرية التى اعتبر وقتها أن أكبر عيوبها هى «اللامبالاة» تجاه المجتمع أو الآخرين أو الأمور العامة، واعتبر أن عيبها الثانى هو تفضيل البعض للجهل على العلم وارتفاع نسبة الأمية بدرجة كبيرة، وقد اعتبر الكثير من الباحثين أن ترجمة فتحى زغلول لهذا الكتاب لعبت دورًا كبيرًا فى إخراج الفكر المصرى من حالة الصدمة التى أعقبت الاحتلال والتفكير فى التعليم كوسيلة لتقدم المصريين بعد أن أخبرهم الكتاب أنه كان سر تقدم محتليهم من الإنجليز الساكسونيين.. حيث بدأت حركة واسعة بين المثقفين المصريين للبحث عن السمات الكامنة فى الشخصية المصرية والتى تعوق انطلاقها، حيث يقول أحد الباحثين العرب الذين درسوا هذه الفترة من عمر مصر «لقد أثرت ترجمة كتاب (سر تقدم الإنجليز) تأثيرًا قويًا على كثير من الأفندية المصريين.. حيث سرت مناقشات واسعة لعيوب المجتمع المصرى والحاجة إلى إصلاح شامل».. وإذا ظللنا فى الماضى محاولين إسقاطه على الحاضر.. فقد أثرت ترجمة فتحى زغلول لهذا الكتاب الهام وحديثه فى مقدمته عن عيوب المصريين على مثقف مصرى آخر مؤلفه هو محمد أفندى عمر الذى كان موظفًا فى مصلحة البريد.. لكنه ألف كتابًا هامًا عام ١٩٠٣ هو «حاضر المصريين أو سر تأخرهم».. قال فيه إن كتابه للأسف يشرح سر تأخر المصريين لا سر تقدمهم وقد قال المؤلف رأيه فى أمور كثيرة ومنها رأيه فى أثرياء المصريين فى زمنه والذين قال عنهم «وأثرياء مصر زمرة منحطة إلى حد كبير، وهم مختلفون تمامًا عن أسلافهم ذوى الجدارة والاستحقاق، وهم فى الأساس كسالى، وعديمو الشعور بالمسئولية ومبذرون ومبتذلون» وينتقل مؤلف الكتاب للطبقات الشعبية فيتهمها بصفات مثل الكسل وإضاعة الوقت فى المقاهى والثرثرة العقيمة «الهرى بلغة هذه الأيام»! ويتهمهم أيضًا بأنهم بلا إرادة قوية وليست لديهم الرغبة لتحسين أحوالهم.. وقد هاجم الرجل الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة واعتبر أن الأمل فى الطبقة الوسطى وفى التعليم.. وبكل تأكيد فإن التعميم مرفوض.. وبكل تأكيد أيضًا فإن أول رد فعل للمجتمع إذا تمت مصارحته بعيوبه يكون الغضب والرفض والانكار.. يحدث هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات أيضًا.. لكن المثل يقول «إن صديقك من صدَقك لا من صدّقك» أى من قال لك الحقيقة لا من سايرك فيما تقول.. والحق أن بعض العيوب التى تحدث عنها محمد أفندى عمر ما زالت موجودة فينا حتى الآن وإلا فما سر انتشار مئات الآلاف من المقاهى فى مدننا وقرانا وأحيائنا الراقية والشعبية.. والحقيقة أننا ما زلنا نعشق الثرثرة والهرى ونفتى فى كل شىء بعلم وغير علم، ونبدى رأينا فى كل شىء وأى شىء من أول صورة محمد صلاح مع أسرته وحتى حفلات الزفاف التى لا تخص سوى أصحابها والمدعوين فيها.. لكنه الفراغ وإضاعة الوقت والطاقة فيما لا ينفع، والفراغ سببه عدم العمل أو عدم إتقان العمل، وعدم الإحساس بقيمة الوقت كثروة ثمينة يمكن استخدامها فى تطوير المهارات أو المعرفة أو خدمة الآخرين أو العمل لزيادة الدخل الشخصى والناتج القومى معًا.. ورغم مرور مئة عام على كتاب محمد أفندى عمر فما زال انتشار الجهل الذى تحدث عنه ساريًا وما زال عدد من لا يجيدون القراءة والكتابة أربعين مليون شخص!! لا يستطيعون بكل تأكيد تحقيق دخل جيد وتحملهم الدولة على أكتافها المتعبة أصلًا طوال الوقت، ويمكن أن نضيف إليهم ونحن مرتاحون ملايين المتعلمين الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة بسبب تدهور التعليم وبالذات التعليم الفنى الذى أصبح اسمًا بلا مسمى.. وبالتالى يمكن إغلاق الحديث مؤقتًا بالقول إننا لن نتقدم إلا إذا حددنا «عيوب الذات القومية» وكيف يمكن علاجها وما هى مسئولية الشعب؟ وما هى مسئولية الحكومة؟ وكيف يمكن أن يتحمل كل طرف مسئوليته؟ هذا إذا كنا مهتمين بالنهضة والتقدم من الأساس.. والله أعلى وأعلم.