رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معاوية «الحفيد».. ومروان

المتأمل لحالة الزهد فى الحكم التى ميزت معاوية الثانى، مقارنة بما كان عليه أبوه وجده، يصاب بالدهشة والاستغراب. هو معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، ويعد الخليفة الرسمى الثالث للدولة الأموية. جده معاوية قاتل بكل ما أوتى من قوة ضد على بن أبى طالب، ووظّف كل ما تمتع به من دهاء سياسى فى سبيل الجلوس على مقعد الخليفة، أما أبوه «يزيد» فقد غدر «الحسين» سبط النبى، صلى الله عليه وسلم، فى «كربلاء»، وعلى يده لقى العديد من أفاضل مدينة رسول الله حتفهم فى مذبحة «الحرة» الشهيرة.

بويع لمعاوية بن يزيد بالخلافة عام ٦٤ هجرية، بعد وفاة أبيه، ولم يمكث فى الحكم أكثر من ثلاثة أشهر مات بعدها، وقيل إنه ملك أربعين يومًا فقط، وكان عمره حينذاك ٢١ سنة. وقد خطب فى أواخر عهده بالحياة- كما يحكى ابن الأثير فى كتابه «الكامل فى التاريخ»- خطبة حمد فيها الله ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فإنى ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبوبكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم»، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات.

هذه الخطبة تنهض دليلًا على أن الرجل لم يكن يرى فى «بنى أمية» حكامًا مثاليين للأمة، وأنه لم يكن راضيًا عن التحول الذى أحدثه جده «معاوية الكبير» فى مسيرة الحكم، بعد وفاة النبى، حين أخذه إلى طريق المُلك الوراثى، يظهر ذلك من الأمثلة التى اختارها كنماذج للحكم الراشد داخل خطبته: «الشيخان أبوبكر وعمر»، وتلميحه إلى مبدأ الشورى الذى اعتمده عمر بن الخطاب، وهو على فراش الموت. ومؤكد أن هذه الرؤية السياسية لم تكن لتُرضى كبار العائلة الأموية، ممن آمنوا بمبدأ «الملك الوراثى»، خصوصًا من أبناء الحكم بن أبى العاص، وعلى رأسهم مروان بن الحكم.. فهل انتهت حياة هذا الزاهد على أيديهم؟.

تردد فى بعص كتب التراث أن معاوية الثانى مات مسمومًا، وذلك هو الأرجح فى تقديرى، إذ لم يذكر المؤرخون أنه كان مريضًا بمرض معين أدى إلى موته فى هذه السن المبكرة. ويبدو أنه مات مسمومًا، ودس السم مثّل الطريقة المعتادة لدى بنى أمية للتخلص ممن لا يريدون، كما حدث مع الحسن بن على، يبرر ذلك التوجه الذى تبناه قبل وفاته بعدم تسمية من يخلفه فى الحكم، على الرغم من أنه كان من المعلوم أن البيعة قد تمت له ثم لأخيه خالد بن يزيد من بعده، قبل وفاة الأب «يزيد بن معاوية»، وربما رأى معاوية الثانى أن بنى أمية لم ينالوا الحكم عن رضا من الناس، وإنما بالقهر والغلبة بالسيف، ثم حولوه بعد ذلك إلى ملك عضوض وراثى، ويؤشر موقف معاوية الثانى إلى أنه أنكر على الأمويين ذلك.

بعد وفاة معاوية الثانى احتارت العائلة الأموية فى أمرها، لكن صوتًا كان قد عاد لتوه من مكة، بعد انتهاء معركته مع عبدالله بن الزبير، حسم الأمر، وهو صوت الحصين بن نمير، فوجّه كلامه إلى مروان بن الحكم وبنى أمية قائلًا: «نراكم فى اختلاط فأقيموا أميركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم فتكون فتنة عمياء صماء». وقام «روح بن زنباع الجذامى» يرغب الناس فى البيعة لمروان بن الحكم، فقال: أيها الناس إنكم تذكرون عبدالله بن عمر وصحبته وقدمه فى الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكنه ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وتذكرون ابن الزبير وهو كما تذكرون أنه ابن حوارى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه ابن ذات النطاقين، ولكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس المنافق بصاحب أمة محمد، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان فى الإسلام صدعٌ إلا كان ممن يشعبه، وهو الذى قاتل على بن أبى طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشيروا الصغير، يعنى بالكبير مروان، وبالصغير خالد بن يزيد.

كان من المفهوم أن البيعة بعد معاوية الثانى لأخيه خالد بن يزيد، لكن من الواضح أن انقلابًا حدث داخل البيت الأموى، قاده مروان بن الحكم، لينتقل الأمر إلى الفرع الثانى من العائلة، من أبناء الحكم بن أبى العاص بن أمية. وكل ما يذكره الرواة عن تفكير «مروان» فى مبايعة «ابن الزبير» يأتى فى سياق التعمية على هذا الانقلاب، خصوصًا أن الأحداث التى تلاحقت بعد ذلك أثبتت أنه كان حريصًا أشد الحرص على الملك. 

يذكر «ابن كثير» صاحب «البداية والنهاية» أن الحكم، أبو «مروان»، كان من أكبر أعداء النبى، صلى الله عليه وسلم، وإنما أسلم يوم الفتح، وقدم الحكم المدينة، ثم طرده النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف ومات بها، ومروان كان من أكبر الأسباب فى حصار عثمان، لأنه زوّر عليه كتابًا بقتل ذلك الوفد من الثوار الذى جاء إليه يشكو ظلم عامله على مصر، ولما كان متوليًا على المدينة لمعاوية كان يسب عليًا كل جمعة على المنبر، وقال له الحسن بن على: لقد لعن الله أباك الحكم وأنت فى صلبه على لسان نبيه، فقال لعن الله الحكم!.

إنها المفارقة بين رجلين، أحدهما أراد الآخرة فزهد فى الدنيا وهو معاوية الحفيد، والثانى أراد الدنيا فتمرغ فى ترابها.