«مثلث التعاسة» الجزء الثانى «اليخت»
فى اليخت الفاره، تجمع أثرياء العالم من جنسيات ومشارب مختلفة وكان لكل شخصية حكايتها، وكانت الرحلة هدية مجانية حصلت عليها (يايا) التى اصطحبت معها (كارل)، وعلى طاولة الغذاء تعرف الشابان على ثرى روسى يدعى (ديمترى) الذى سأل عن مهنة الفتاة التى تمنحها رحلة مجانية كهذه فكان الجواب (إنها مؤثرة فى المجتمع ولديها متابعون ومعجبون كثر على مواقع التواصل الاجتماعى يتابعون خطواتها وصورها وأنشطها ورحلاتها لحظة بلحظة فهى شخصية ملهمة بالنسبة لمتابعيه) فقال لها الروسى إذًا جمالك هو من يسدد لك الفواتير.. وكانت إجابة (ديمترى) واقعية وموفقة.. عبرت عن حقيقية الأمر.. ففى المجتمع الرأسمالى منظومة القيم دومًا مختلفة ويتحقق الثراء عادةً بدون عناء وعبر أشياء لا تخطر بالبال.. ونفس الشيء ينطبق على المليادير الروسى الذى أصبح من أثرياء العالم لأنه يبيع الغائض! هكذا قال نصًا بل ويفخر وبشدة أن لقبه فى العالم هو (ملك الغائض)! وحدثنا عن الثراء الذى يتحقق عندما نكون (فى المكان المناسب فى الوقت المناسب) وهذا ما حدث لديميترى فى الثمانينيات عندما بدأ بيع الغائض لبلدان أوروبا الشرقية!
ثم أردف قائلًا وعندما تبدأ أولى خطواتك فى الثراء لا تترك أموالك جانبًا لتستريح.. فلكى تنام أنت وتهنأ يجب أن تظل أموالك مستيقظة.. فالأموال لتنمو لا يجب لها أن تنام!
وتلك هى فلسفة التربح والربح السريع فى المجتمع الرأسمالى الذى يعتمد على فكرة الربح من خلال تدوير رأس المال.
وفى الليل ظهر على سطح اليخت شابًا مرتبكًا يجلس وحيدًا، وليكسر وحدته ذهب للتحدث مع الجميلات ليشعر بكينونته وطلب من (يايا) وصديقتها الروسية الشابة- التى اصطحبها (ديمتري) معه لليخت- كى يكتمل الديكور ولتكتمل سعادته- أن يلتقطوا له الصور لأن صديقته هجرته ويريدها أن ترى صوره سعيدًا على اليخت، فانصاعت الفتاتان للشاب الثرى - وجميع من على اليخت من الأثرياء- بل والتقطن معه الصور لإغاظة من هجرته فشعر الثرى بالرضا وطلب من الفتيات أن ينتقين لأنفسهن ما شاءوا من ساعات (الرولكس) التى تباع على اليخت للزبائن قائلًا لهن (أنا ثري.. أنا فاحش الثراء لقد بعت شركتى بالمليارات لأستمتع بحياتى وهذه الرحلة هى البداية).
ولم يكن يدرى أن اليخت كتايتانيك مصيره الفناء
ومن نجا منه كان الشاب الرياضى الوسيم الذى كان يعمل على اليخت وأثار غيرة (كارل ) عندما شاهد نظرات (يايا) لجسده فوشى به لمديرة اليخت ففصل من عمله فصلًا تعسفيًا وغادر اليخت مكرهًا.. فملاحظات الزبائن الأثرياء أوامر تطاع وإن كان نتاجها ظلمًا لعامل لم يخطئ!
أما المسنان المتقاعدان اللذان يعرفان أنفسهما للآخرين بأنهما من (بريطانيا العظمى)! نعم قالا ذلك نصًا وحرفيًا (نحن من بريطانيا العظمى). وعندما سألهما (كارل) عن مهنتهما قالا إن منتجاتهما التى يصنعونها تساعد فى فرض الديمقراطية فى العالم! وعندما لم يفهم (كارل) ردوا بأنهم من صنعوا وباعوا (القنابل اليدوية) منذ الحرب العالمية ثم تدخلت الأمم المتحدة لتقلل أرباحهم بإلغائها للعبوات الناسفة المرتجلة (يقصدون الألغام) ! فمروا بوقت عصيب بعد أن زالت الألغام من الأراضى وقلت أرباحهم! ورغم أنهم يتربحون من قتل الأنفس وتفجير الناس وتقطيع أجسادهم التى يفتك بها اللغم يتحدث المسنان على مائدة العشاء الفارهة فى يخت الأثرياء عن الحب الذى جعلهم أقوياء! بل وتناولوا نخب الحب على اليخت بعد أن قرروا التقاعد للاستمتاع بثروتهم.. ولأن الإنسان ينال دومًا ما يذيقه للآخر.. فجرت زوجة صانع الألغام اليخت الفاخر فى نهاية الجزء الثانى من الفيلم وقامت بفتح قنبلة رميت على أرضية اليخت من سفينة قراصنة مرت بهم قائلةً لزوجها- والابتسامة البلهاء ترتسم على وجهها- (انظر هذه من صنع أيادينا) فعلامتنا التجارية عليها.. لينفجر اليخت بمن فيه! وقبل الانفجار وما تلاه من أحداث شهدها الجزء الثالث والأخير من الفيلم أود التطرق لنماذج أخرى كانت على سطح اليخت..(الروسية الثرية) التى لا تفيق من حالات السكر الدائمة وهى صديقة (لملك الغائض) وتتشدق كعادة الأثرياء بالعدالة والمساواة وإن كلنا واحد.. لذلك خطر ببالها وهى فى إحدى نوبات السكر أن تأمر النادلة التى تملأ لها كأسها عندما يفرغ أن تنزل معها بثيابها للمسبح.. وعندما قالت الفتاة (لا) أستطيع كى لا تعاقب من قبل مديرة المركب التى اجتمعت بالعاملين قبل بدأ الرحلة قائلةً لهم إن الساعات الأولى والأخيرة فى الرحلة هى الأهم دومًا.. وإذا نجحت تلك الساعات تكون رحلتنا ناجحة وأردفت قائلةً اعلم أن خدمة الآخرين مزعجة ولكن تذكروا شيئًا واحدًا.. تذكروا الأموال والبقشيش الكبير الذى ستحصلون عليه فى نهاية الرحلة لذلك فلتعملوا وكأنكم فى خلية نحل، وأريد أن أسمع من أفواهكم دائمًا جملتين (نعم سيدى) (نعم سيدتي).. طلبات الأثرياء أمر مطاع حتى ولو محظورة.. ولو طلبوا منكم أن تأتوا لهم بـ(وحيد القرن) عليكم بالسمع والطاعة.. فمن أجل (المال) نصنع أى شيء.. فردد معها الطاقم بحماسة هيستيرية (المال المال المال) وعلت وتسارعت أصواتهم التى تحولت لصراخ وكأنهم فى حفلة زار! بعد أن حولتهم الأموال لمسعورين جشعين مشعوذين يضربون بكفوفهم طاولات اليخت فيستمع لصراخهم العمال القاطنون فى العالم السفلى (قاع اليخت) الذى سينقلب وستنقلب أحوال من فيه للنقيض.
فى الجزء الثالث من الفيلم
ولذلك فعندما قالت النادلة فى البداية (لا) للثرية الروسية.. اعتدلت الأخيرة فى جلستها وسألتها هل تقولين لى أنا لا؟ أنا أأمرك بالاستمتاع معى باللحظة فى المسبح! فإمتاع الآخرين عند الأثرياء يأتى بالجبر وإصدار الأوامر! هكذا يحققون للآخرين المتعة! وعلى الآخر السمع والطاعة إعمالًا بالمثل الرأسمالى الذى يردده الإنجليز (i pay i say) أى من يدفع هو صاحب القرار وهى ومن يقرر.. أما من يتلقى المال فعليه السمع والطاعة.
وبالتالى تداركت النادلة نفسها وقالت (لا بالطبع لا) أقصد (نعم نعم نعم) وكررتها بنفس الهستيريا! وبناء على أوامر الثرية الروسية التى أعجبتها الفكرة فأصدرت أمرًا جديدًا ليترك جميع من فى اليخت من العمال أماكنهم للاستمتاع بالمسبح مجبرين! فهرعت المديرة لمساعد القبطان كى ينقذ الموقف.. فتعالى على الروس- رغم أنه لاتينى من ذوى البشرة السمراء وليس أمريكيًا أو أوروبيًا- قائلًا لها لن أتحدث مع حفنة من الروس الحمقى.. فردت عليه (هؤلاء أثرياء روس والأثرياء لا يمكن أن يكونوا حمقى حتى ولو هم فعليًا حمقى)! فالمال يزيل الحماقة ويزيل كل شيء بل ويجعلنا نرى ما نريد أن نراه والعكس.
فعندما ظهر القبطان على سطح اليخت جاءته سيدة ثرية لتعرب عن انزعاجها من أشرعة اليخت المتسخة! فرد عليها القبطان بأن اليخت لا يعمل بالشراع فانزعجت أكثر ونادت على زوجها (الثرى بالطبع) وقالت للقبطان زوجى السيد (ماغنوس) يرى أيضًا أن الأشرعة متسخة وهنا جاء رد القبطان (إن كان السيد «ماغنوس» حقًا يرى ذلك إذًا سنغسل أشرعتنا «غير الموجودة» يا سيدتي)!
وبظهور القبطان الذى كان قابعًا فى غرفته منذ بداية الرحلة بدأ ماراثون من العصف الذهنى والتراشق الكلامى بينه وبين الملياردير الروسي.. فالقبطان الأمريكى الذى يأكل الهامبرجر ماركسى الهوا يؤمن بما قاله (ماركس) و(لينين) و(مارك توين)، فى حين أن الرأسمالى الروسى يؤمن بما قاله (ريجان) و(تاتشر) و(كنيدى) وهكذا اجتمع راسمالى روسى مع اشتراكى امريكى على يخت ثمنه ٢٥٠ مليون دولار! وعندما احتدم الصراع بينهما أمسك الثرى (ملك الغائض) بزمام الأمور وجلس فى غرفة القيادة (التحكم) وبدأ يحدث من على اليخت بوصفه المالك الجديد لليخت بعد أن اشتراه وقاد هو اليخت لأن القبطان شيوعي سيتجه بنا لكوبا! فرد عليه القبطان (أنا لست شيوعيًا أنا ماركسي) فرد عليه بأن ماركس هو من كتب البيان الشيوعى وبما أنك عاشق للنظام الاشتراكى وهو نظام ديكتاتورى فعليك السمع والطاعة أنا القائد الآن أنا المالك الجديد.
وهنا لم يتمالك القبطان الأمريكى (الاشتراكي) نفسه وتفجرت عنه ثورة كلامية أخرجت كل ما كان مخزونًا بداخله منذ الطفولة من احتقار للرأسمالية العفنة مطالبًا الأثرياء بدفع ضرائبهم.. ولم يستثن نفسه قائلًا (حتى أنا لا أستحق أن أكون اشتراكيًا فلدى متع كثيرة فى حياتى لا أستحقها) أما أنتم فتريدون لبقية العالم أن يظل فقيرًا لتصبحوا أنتم أثرياء.. وصرح علنًا بأن حكومته الأمريكية هى التى قتلت (مارتن لوثر كينج) و(مالكم اكس) و(كنيدى) وقتلت أيضًا ديمقراطيين أنقياء فى تشيلى وفنزويلا والأرجنتين وبيرو والسلفادور وبوليفيا.. وأردف قائلًا نحن الأمريكان فعلنا كل ذلك بالتعاون مع بريطانيا العظمى.. قسمنا الشرق الأوسط ومنحنا الحكم للديكتاتوريين حتى أصبحت الحروب أكثر صناعاتنا ربحًا.. وفى ذلك التراشق والتناحر حول الأفكار المتضاربة رمزية لا يمكن غفلانها وتشير للصراع الأزلى بين روسيا وأمريكا.. وإن تبادل كلاهما الأدوار فى هذا العمل.. فالروسى الذى تحقق له الثراء الفاحش يريد أن يتحكم ويشترى ويقود العالم ففجره! (فاليخت) هنا معادل موضوعي لعالمنا المعاصر والنظام العالمى الجديد) ثم تمر سفينة القراصنة لتطلق الشرارة التى فجرت عالمنا كما سبق وأوضحت.. ولتتحقق نبوءة (كارل ماركس) الذى كان مدركًا لمدى فداحة وتوحش الرأسمالية وما تفعله فى البشر فقال إنه (فى يوم ما سيشنق آخر برجوازى بالحيل الذى صنعها)! وبالفعل فجر من يرون أن المملكة المتحدة مازالت هى (بريطانيا العظمى) التى تحتل الأراضى وتلغمها لتتسع رقعتها وتسرق خيرات تلك الأراضى فماتا وتفجرا كما فجرا هما أناسًا غيرهم دون أن تطرف لهما عين!
وإلى مقال أخير (الأسبوع المقبل) عن آخر أجزاء الفيلم الملحمي (مثلث التعاسة) ويحمل الجزء الثالث اسم (الجزيرة).