هل تصبح السينما الخليجية.. قوة ناعمة عالمية؟
السينما من أهم الوسائل التي تستخدمها الدول في تقديم نفسها للجماهير وبناء صورتها الذهنية، لذلك تطور مفهوم (الدبلوماسية السينمائية)، ليحتل مكانته المهمة في شبكة مفاهيم تستهدف تطوير النظم الدبلوماسية، وزيادة قوة الدولة الناعمة، وتحقيق أهداف سياستها الخارجية.. كما ارتبط هذا المفهوم بعملية تقديم قصة الدولة المرئية للعالم، وكان هذا المفهوم قد ظهر خلال الحرب الباردة، لكن تم تجديده وتزايد الاهتمام به منذ بداية القرن الحادي والعشرين، بسبب التغير في الظروف العالمية.
وقد تمكنت بعض الدول من تطوير تجاربها في استخدام الدبلوماسية السينمائية.. وتعد التجربة الألمانية مثيرة للاهتمام، إذ عملت ألمانيا على تقديم نفسها للجمهور في أستراليا وبناء صورة إيجابية لها، لذلك يقوم معهد (جوته) بإقامة مهرجان سنوي للأفلام الألمانية في أستراليا.. ويقول مسئولو معهد جوته إن هدفه من ذلك تقديم الثقافة الألمانية بشكل مرئي عن طريق استخدام الدبلوماسية السينمائية.
إن السينما تؤثر على إدراك الجمهور للعالم، لذلك كان من الطبيعي أن تفكر الدول في استخدامها للتأثير على إدراك الجمهور للدولة، وفي تحقيق الجاذبية لثقافتها.. ولقد أدركت الولايات المتحدة أهمية السينما في تحقيق أهداف سياستها الخارجية، فعملت الحكومة مع شركات الإنتاج السينمائي في هوليوود بهدف بناء صورة إيجابية لأمريكا في الخارج، وقامت الحكومة الأمريكية بتمويل كثير من الأفلام، ولم يكن الهدف تحقيق الأرباح، ولكن استخدام هذه الأفلام للتأثير على الرأي العام في الخارج.
من هنا، كان واضحًا لنا أن نفهم: لماذا بدأت دول كالإمارات وقطر، خصوصًا السعودية، في إنفاق الكثير من المال على وسائل الإعلام، ومن بينها السينما؟.. وماذا يعني ذلك بالنسبة للجميع؟.
في أوائل ديسمبر الماضي، وصل العشرات من المشاهير العالميين إلى جدة، وهي مدينة يزيد عدد سكانها عن أربعة ملايين نسمة، على الساحل الغربي للمملكة العربية السعودية.. ولطالما كانت جدة بمثابة بوابة لمكة المكرمة، وكذلك ميناء دخول للمسافرين الأجانب القادمين إلى المملكة.. لمدة عشرة أيام في العام الماضي، حاولت ثاني أكبر مدينة في السعودية تحويل نفسها إلى مركز ثقافي أقرب إلى مهرجان (كان) أو (صندانس)، من خلال استضافة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
ضمت قائمة الحضور للنسخة الثانية من الحدث العديد من أعضاء قائمة النجوم الأوائل في هوليوود، أوليفر ستون، رئيسًا للجنة التحكيم، بينما جلس سبايك لي وأنطونيو بانديراس وآندي جارسيا لإلقاء محاضرات حول السينما.. كان هناك الكثير من النجوم، بينهم هنري جولدينج وجويل كينمان وميشيل رودريجيز، بينما قدم برونو مارس عرضًا في ليلة الافتتاح، في إطار حرص السعودية على توسيع نفوذها على المسرح العالمي، من خلال الاستثمار في الثقافة الشعبية.. بعدما أنفقت مليارات الدولارات لإقامة دوري جديد للجولف، واستثمرت مليارات أخرى مع ناشري ألعاب الفيديو، وهي الآن تحول انتباهها إلى هوليوود.
إن وجود أشخاص مشهورين على الأراضي السعودية في مهرجان سينمائي يُضفي مصداقية على تلك الجهود، حتى لو لم يستطع المنظمون دعوة عدد أكبر من النجوم للحضور إليه، في الوقت الذي تقدم فيه البلاد حوافز سخية لصانعي الأفلام والاستديوهات إذا قاموا بالتصوير هناك، وقد أغرت هذه الحوافز بالفعل اثنين من الإنتاجات، بما في ذلك فيلم من بطولة أنتوني ماكي.
يأتي ذلك في وقت تواجه فيه بعض الشركات الأجنبية التي تحتاج إلى رأسمال، صعوبة في الاستفادة من العديد من مصادرها التقليدية، فقد أغلقت الحرب الروسية- الأوكرانية تدفقات الأموال إليها، وحدَّت الصين من قدرة شركاتها والأفراد الأثرياء على الاستثمار في الخارج، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة جعل جمع الأموال من مصادر التمويل في الولايات المتحدة وأوروبا أكثر تكلفة.
إن أي شخص يبحث عن المال يحتاج إلى الإبداع، ولقد استفادت كل من قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات من ارتفاع أسعار النفط، وتحتاج إلى نشر رءوس أموالها في العديد من الصناعات، فصناديق الاستثمار الخاصة، وأصحاب رءوس الأموال الاستثمارية، والمصرفيون الاستثماريون يقضون الوقت في الشرق الأوسط، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، حتى إن أحدهم قال: «عندما اتصلت بأحد أصحاب رءوس الأموال المُغامرة حول هذا الموضوع، استجابوا لدعوتي من الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية».
لطالما قبلت شركات الإعلام التمويل من القطريين والإماراتيين، إذ استثمر صندوق الثروة السيادية القطري في استديو الأفلام Miramax، شركة الترفيه التي يملكها بيتر تشيرنين، وهو مالك فريق باريس سان جيرمان لكرة القدم.. بينما وافق صندوق الاستثمار الإماراتي على أن يكون مستثمرًا رئيسيًا في كتالوج مايكل جاكسون الموسيقي، ويتطلع كل من القطريين وطيران الإمارات إلى شراء فرق الدوري الأمريكي للمحترفين.
وعقد بعض المنتجين والممولين مقارنات بين الشرق الأوسط اليوم والصين قبل عشر سنوات.. بعد أن سئمت الصين من مواطنيها الذين يشاهدون الأفلام الأمريكية، وهي الحريصة على توسيع نفوذها على المسرح العالمي، ضخت مليارات الدولارات في صناعة السينما.. قامت ببناء الآلاف من المسارح، واستثمرت في شركات الإعلام الأمريكية، ومولت العديد من أكبر أفلام هوليوود، وشاركت في المتنزهات الترفيهية.. وفي غضون بضع سنوات فقط أصبحت الصين ثاني أهم سوق للأفلام في العالم بعد الولايات المتحدة.
بعد فوات الأوان، استخدمت الصين هوليوود.. لقد جلبت هوليوود، ونسخت ممارساتها، ثم طردت الجميع.. حلت الأفلام الصينية محل الأفلام الأمريكية في قمة شباك التذاكر في البلاد، والحكومة أقل انفتاحًا بكثير على السماح بإصدار الأفلام الأجنبية.. والآن، معظم المنتجين متفائلون بأن المملكة العربية السعودية لن تفعل ذلك، وهم يعتقدون أن السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة حريصة على ممارسة المزيد من النفوذ وتحسين سمعتها، لكنهم يشككون في أنها تريد إنتاج أفلام للاستهلاك المحلي فقط.. والدليل، أنه عندما احتاج منتجو فيلم (قندهار) إلى مكان لتصوير فيلمهم، وهو فيلم أكشن من بطولة جيرارد بتلر، تدور أحداثه في أفغانستان، يتم الحوار داخل الفيلم بالبشتون والأردية والعربية، فكروا في دول الخليج، موقعًا لتصوير أحداث الفيلم.
ساعدت وكالة الفنانين المبدعين العملاقة للمواهب في هوليوود على وصل المنتجين بـMBC، الشركة الإعلامية السعودية، التي كانت حريصة على الاستثمار في ذلك المجال.. في البداية، كانت الخطة هي تصوير المشروع في دبي وقضاء أسبوع في المملكة العربية السعودية، بعدما تم تصوير العديد من الأفلام، بما في ذلك الجزء الأخير منMission: Impossible في دبي.. ولكن بعد ذلك قدمت MBC عرضًا حول بناء مجتمع صناعة الأفلام في السعودية، لتعويض التكاليف المرتفعة لنقل الفيلم إلى مكان به بنية تحتية أقل، وبذلك تكون قد قدمت الدولة السعودية مساعدة مالية كبيرة لصناع الفيلم.. قندهار، الذي تم تصويره بشكل أساسي في السعودية، وسيتم عرضه الافتتاحي في دور العرض بالمملكة، نهاية مايو القادم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.