حرب الفضاء ضد مصر
ما أقصده بالفضاء هنا هو «الفضاء الإلكترونى» الذى تسبح فيه عشرات من وسائل «السوشيال ميديا» التى استولت على عقول الناس فى مصر وفى غيرها فى آخر عشر سنوات من عمر العالم وشكلت فضاءً لإعلام من نوع جديد.. بلا قواعد حاكمة ولا كود مهنى ولا أخلاقى يحكم ما ينتشر عليها من أكاذيب فى صورة حقائق، ومهاترات فى صورة آراء ومواد مصنوعة فى أقبية المخابرات فى صورة منشورات خفيفة الظل أو قصص شخصية تساق وكأنها وقعت بالفعل فى حين أنها لم تحدث سوى فى أذهان أصحابها.. انتشرت وسائل التواصل لتلغى نظرية الإعلام القديم وتحول المواطن من مستهلك للإعلام لصانع له أحيانًا.. بغض النظر عن مستوى ثقافته وتعليمه وجدارته بإنتاج مادة تؤثر فى ملايين المستهلكين.. ولتلغى أيضًا نظرية «حارس البوابة» التى كنا ندرسها فى كلية الإعلام فى تسعينيات القرن الماضى، حيث يلعب الإعلامى دور المصفاة التى تتأكد من صدقية الخبر وعدم مخالفته لمواثيق المجتمع الأخلاقية قبل أن يذيعه على الناس وكأنه حارس مرمى يتصدى للكرات المعادية بمهارة ووعى وانتباه.. غابت المواثيق والقيم وحراس البوابات لينفتح الجميع على فضاء يتخفى فيه البعض فى صورة أشخاص وهميين لهم صور ومهن وحكايات معلنة.. فى حين أنهم مختلفون تمامًا.. أو افتراضيون تمامًا.. لا وجود لهم سوى فى الفضاء الأزرق.. وإلى جانب الأشخاص الوهميين هؤلاء.. والذين لا وجود لهم سوى فى الفضاء الأزرق.. والذين يبدون رأيهم فى قضايانا وكأنهم منا.. ويعلنون غضبهم على أوضاع لا يعيشونها معنا.. لأنهم لا يعيشون أساسًا فى حياتنا الدنيا.. إلى جانب هؤلاء.. هناك المعارضون الذين لا وجود لهم سوى فى الفضاء الأزرق.. فلا وجود لهم على الأرض.. ولا أنصار.. ولا نشاط.. ولكنهم معارضون افتراضيون.. يجدون من يمولهم ويتواصل معهم ويرسم لهم موجات متتالية من شائعات محبوكة وقصص مزيفة.. هدفها أن يشعر الناس باليأس وبانقطاع الأمل وقلة الحيلة.. فيخرجون ليدمروا كل شىء لنبدأ من أول وجديد وكأن الشعب المصرى هو «سيزيف» الذى عاقبته الآلهة بأن يحمل الصخرة ويصعد الجبل.. فإذا وصل للقمة.. سقطت الصخرة ليبدأ من جديد.. إن أى متابع نزيه لا بد أن ينتبه لموجات الشائعات والقصص المصنوعة التى تظهر فى موجات معينة مدروسة ومتتالية وتتخذ أشكالًا فنية غير مباشرة.. فهى تظهر مرة فى شكل وثيقة مزورة لبيع شىء ما.. أو فيديو مفبرك يقتطع عبارات من سياقات مختلفة ليلصقها إلى جوار بعضها.. أو قصة مختلقة تمامًا عن مصنع أغلق أبوابه واتجه لبلد شقيق هنا أو هناك.. وكأن البلد يغلق أبوابه.. على عكس الواقع والحقيقة.. وقد تابعت هذه القصة الوهمية التى أفاد المتحدث باسم مجلس الوزراء بكذبها.. وعززت تكذيبه شواهد أخرى مثل أن الحساب الذى أذاع القصة لأول مرة قد تم إغلاقه.. ومثل أن السيدة التى نقلت اللجان الإلكترونية الإرهابية القصة عن حسابها قد أصدرت توضيحًا تقول فيه إنها ليست طرفًا فى القصة!! وإنها لا تعرف أصحابها من الأساس!.. وبالتالى نحن إزاء قصة مختلقة من الألف إلى الياء.. وهو ما يدفعنا جميعًا للسؤال: لماذا يتم فبركة مثل هذه القصة؟ وما هى الجهة المستفيدة من نشرها؟ وما هو الأثر المراد إحداثه فى نفسية المواطن المصرى من نشر هذه القصة؟ ومن هى الجهة التى تمول إنتاج هذه القصص ونشرها؟ إن هذه كلها أسئلة مشروعة.. لا بد أن نسألها لأنفسنا ونقيم الوضع على ضوء الإجابات التى تتوصل لها عقولنا.. ومع ذلك ورغم كذب قصة إغلاق المصنع هذه فإننى أقول إن إغلاق مصنع ما ليس دليلًا على انهيار الاقتصاد.. وإن إطلاق الأحكام الكلية هو أحد دلائل التفكير غير الناضج.. فربما يغلق مصنع ما بسبب فشل إدارته.. أو تنازع ملاكه.. أو سوء حظهم.. أو تغير الظروف التى تحيط بالعملية الإنتاجية.. وهذا كله لا يمكن اتخاذه معيارًا للحكم على فشل اقتصاد دولة بكاملها.. وإلا وقعنا فى خطيئة الاجتزاء والتعميم.. وأنا أذكر أن مجلة روزاليوسف صدرت فى عام ١٩٩٦ وعلى غلافها تحقيق عنوانه «١٥ ألف حالة إفلاس فى مصر»، وفى داخل التحقيق كانت هناك تفاصيل عن لجوء البعض لإعلان الإفلاس للهروب من الضرائب والديون ثم معاودة النشاط مرة أخرى.. ومع ذلك فعندما ننظر لتلك الفترة كلها على بعضها نجد أن النشاط الخاص زاد ولم يقل وإن كانت عوائد النمو لم تصل للطبقات الأقل حظًا.. وبالتالى فإعلان إفلاس آلاف الشركات لم يكن يعنى تدهور الاقتصاد بشكل عام بقدر ما هو قصص تخص أصحابها.. وأذكر أن البعض سارع منذ عام تقريبًا لتداول شكوى لصاحب مصنع أحذية يعمل منذ السبعينيات عن تراجع إنتاج المصنع.. والحقيقة أن إنتاج المصنع لم يجار الزمن ولم يستخدم الخامات الحديثة ولم يستجب لتطورات الموضة فى أنماط استهلاك الشابات والشباب وظل ينتج حذاءً قاسيًا غير مريح بدعوى أنه يتحمل لعب الأولاد بـ«الزلط» فى الشارع.. وهو موديل كان يناسب الثمانينيات وليس العقد الثالث من الألفية الثالثة.. والمعنى أن المصانع تغلق لأسباب مختلفة، وأذكر أننى فى عام ٢٠١٢ قابلت صديقًا وجارًا من حى شبرا كان والده يملك مصنع حلوى شهيرًا ينتج «البون بون» الذى كنا نعرفه ونحبه فى طفولتنا وتعرفه مصر كلها من خلال إعلان التليفزيون، سألته عن الأخبار فقال إن الحال ليس على ما يرام لأنه كان يصدر للسوق الليبية المستقرة بأرقام كبيرة وعندما وقعت أحداث الربيع العربى أغلقت هذه السوق الكبيرة أمامه.. ونفس الأمر بالنسبة لغزة التى كان يصدر بضاعته إليها عبر الأنفاق وعندما انتشر الإرهابيون هناك عقب الربيع العربى أغلقت أمامه سوق غزة.. إذن هذا تغير فى أحوال السوق أدى لتوقف النشاط وربما اتجاه المستثمر لنشاط آخر لأن مجال إنتاجه الأساسى تجاوزه الزمن مثلًا.. والمعنى أن الدولة لا يجب أن تشعر بأنها مسئولة عن كل أزمة وطرف فى كل مشكلة ومقصرة فى كل مجال.. لأن هذا عكس طبيعة الأمور.. وإن كان من المهم بالتأكيد الإسراع فى حل كل مشاكل المستثمرين وتخفيف قبضة البيروقراطية والروتين عن رقاب الناس.. ولكن هذا موضوع آخر غير موضوع المصنع الذى أغلق هنا وفتح هناك.. رغم أن كلنا فى الهم شرق.. استقيموا واعتدلوا.. يرحمكم الله.