«الشارع المصرى والفكر».. أنور عبدالملك يحاكم العقل المصرى ويستقصى جذور التخلف والخمول
إن النقاش والجدل عن الهوية المصرية والأيديولوجية الفكرية للشارع المصرى هو جدل ونقاش منذ زمن بعيد نحاول دائمًا التفتيش عنه، وقد بدأت الأحاديث يتعالى صوتها وصداها بعد ثورة ١٩١٩ فى كتابات المفكرين والكتاب والأدباء، وأخذت أزمة التفكير نفسها حيزًا كبيرًا فى عقول المفكرين، وهمًا كبيرًا فى نفوسهم ومنهم من بحث عن الاثنين معًا، عن هوية وأيديولوجية مصرية، وعن معالجة لمشكلة الفكر والتفكير فى مصر.
ولعل من أهم ما كُتب عن الهوية هى السلسلة التى صدرت بنفس الاسم عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، التى أعادت الهيئة طباعتها مرة جديدة مطلع العام الحالى كمحتوى جيد للغاية وبسعر زهيد، لتؤكد على أهمية البحث عن الهوية وفهم الفكر المصرى عبر التاريخ عبر كتابات المفكرين والأدباء المصريين.
وفى هذا الصدد، فأحد كتب تلك السلسلة هو كتاب «الشارع المصرى والفكر» للدكتور أنور عبدالملك، المفكر والمهتم بشئون الفكر المصرى، الذى يتناول فيه وجهة نظره عن أزمة الفكر المصرى المتغلغلة فى جذور المجتمع المصرى منذ القدم.
ويشرح كيف كانت علاقة الأزمة الفكرية بين طبقة الصفوة من المثقفين وأفراد الشارع العاديين، وهو يقدم شرحًا وافيًا لتلك المشكلة، بل إنه يذهب لخارج مصر من مجتمعات وثورات ونظم وتفكير، ما يخدم وجهة نظره فى أزمة الفكر فى مصر.
ويبدأ الكتاب بطرح أزمة التعليم التى أصابت المجتمع بالجهل والظلام رغم التعلم، فأضحى الطبيب عاجزًا عن التعبير، والكيميائى لا يربط المعلومات، والمهندس لا يقرأ شيئًا، والمدرسون ضعافًا فى المعلومات العامة. فكيف سيصبح المجتمع جيدًا وهؤلاء المتعلمون ضعاف إلى هذه الدرجة؟
ويرجع الكاتب ذلك التقوقع وعدم الإبداع والتخلف أولًا إلى الاحتلال العثمانى الذى امتد لأربعة قرون كانت قرونًا مظلمة، ثم بعد فترة التقدم النسبية فى الأسرة العلوية بعد الحملة الفرنسية إلى الاحتلال البريطانى الذى قضى على الإبداع.
ويسلط الضوء على تغلغل الحفظ والتلقين فى التعليم، فأصبح المتعلم آلة تنفذ مهام ولا يفيد مجتمعه، وللمفارقة فإنها نفس المشكلة التى نعانى منها فى عصرنا الحالى وتعليمنا فى هذا الوقت، وإن دل هذا على شىء فيدل على عمق المشكلة وجذورها التى تمتد لعقود من الزمن ويؤيد فكرة أن دراسة المشكلة تاريخيًا أفضل طريقة لمعرفة حلها.
ويذكر أسباب ذلك التخلف بسبب الخمول، وعدم التفكير بشكل عملى وعلمى، والاعتماد على الخرافات والدجل، وعدم المحاولة لكسر تلك القوالب المفروضة على التفكير.
يذكر الكاتب المحاولات التى أقدم عليها مفكرو ومبدعو مصر الثورة على كل ذلك من خلال الثورتين الفكريتين اللتين ذكرهما فى الكتاب. ثم يذهب الكاتب لتحليل الكثير من الحركات الخارجية كالرأسمالية، والماركسية، والليبرالية، والراديكالية، والحركات الاستكشافية، والثورات الصناعية، والبرجوازية، والثورات السياسية وتغير النظم الاقتصادية والفكرية الأوروبية فى القرون والعصور المختلفة وتحليل مقصده كباب للدخول لتحليل الأزمة الفكرية.
ثم يحلل الكاتب تطور الثقافة المصرية والشخصية المصرية عبر العصور من خلال الولوج لعصر المصريين القدماء وتحليل دقيق للحالة المصرية وقتها، ثم المرور على الإغريق، ثم الحملة والدخول العربى، ليرينا التركيبة الغريبة للشخصية المصرية التى تكونت عبر العصور، ثم يناقش ميول مصر فى حضارتها إلى حوض البحر المتوسط قديمًا.
من أكثر ما شرحه الكاتب وتطرق إليه هو الأيديولوجية الفكرية. فما الأيديولوجية المصرية؟ يربط هنا الكاتب الأيديولوجية بالثقافة بالعقلية بالفلسفة بالمصطلح الأشمل للحضارة وكيف نشأت هذه المصطلحات فى أوروبا. كل هذا كان تحليلًا للفكر المصرى والشارع المصرى.
ينتقل الكاتب بعدها إلى الفكر العربى للشارع العربى الذى تتشابك معه مصر باللغة والدين، فيبدأ بالحديث عن الحركات الوطنية ضد التحرر من المد الاستعمارى الغربى، ويحلل المعسكرين الموجودين بين الأصولية الإسلامية والعصرية الليبرالية.
ويحلل المرحلة القومية وكيف تنفتح الثقافات ويتفتح الفكر على العالم وعلى المنطقة مع الاحتفاظ بالأصالة الخاصة بالمجتمع قديمًا، وهذا يوضحه من العصرية والمعاصرة، ويعبر بها أكثر من الوحدة العربية التى يصف الدول التى بها على تشابه اللغة والدين العام، كما ذكرنا سابقًا، مع الاحتفاظ بالحضارة القديمة كمصر والعراق. ويرى أن الحرية هى ما تصنع الثقافة والفكر والمجتمعات وليس السلاح. فى نهاية الكتاب يطرح إلزامية عمق المجال التاريخى، والفلسفة التاريخية، والتأريخ، وهو معرفة تلك القومية التاريخية للدول التى تتشكل منها الأمة العربية لتفيد ذلك الاتحاد ولمجابهة الغزو الخارجى، ولكنه يتطرق إلى أن الوحدة العربية واجبة والمصير الحضارى واحد.
ويعرض إشكالية النهضة الحضارية العربية، فهو يريد الإبداع وليس التقليد الأعمى. ثم يعرض فى الفصول الأخيرة للكتاب العلاقة بين الفكر والثقافة العربية والثقافات العالمية الكبرى، ونوعية تلك العلاقة، وفى النهاية يعود للحديث عن مصر وعن فهم فلسفة تاريخ مصر بين السياسى والتاريخى.
فى النهاية، الكتاب هو حالة من التشابك مع جميع ما خطر للكاتب من مشكلات رآها أو أحس بها فى الفكرين المصرى والعربى عن طريق المصرى، وحاول أن يكون موضوعيًا قدر المستطاع، وألا ينحاز لمعسكر على حساب الآخر، فتشعر وأنت تقرأ فصول الكتاب بأنه يؤيد كل المعسكرات والأيديولوجيات، ثم فى صفحات أخرى بأنه يهاجمها كأنه يذكر إيجابيتها التى يحبها فيها، وسلبيتها التى يبغضها، لقد تشابك الكاتب مع كل المصطلحات التى ناقشها والقضايا، والشارع المصرى العادى من عامة الشعب المصرى الذى يود أن يشرح له تلك المشكلة التى رآها وأرقته طوال صفحات الكتاب، بل أرقت كل المفكرين، كما ذكرنا سابقًا، بل تؤرقنا حتى الآن فى فهم الفكر المصرى والهوية المصرية.