رسائل المنيا
فى ظنى فإن أهم إنجاز تحققه دولة ما فى وقت الأزمة هو بث روح الثقة بين الناس.. فالأزمات وقت مثالى لكل عدو لتسوية الحسابات القديمة، ومحاولات الانتقام، والاصطياد فى مياه الأزمات العكرة، ومحاولات القفز على المشهد.. وخلط الأوراق حول أسباب الأزمة وهل هى أسباب عالمية خارجة عن الإرادة أم أسباب محلية تتعلق بسوء الإدارة.. وهكذا يمكن فهم مجموعة الرسائل الصادرة من المنيا والتى أرسلها الرئيس فى زيارته لها بالأمس وأولى هذه الرسائل تتعلق بـ«عدالة التنمية» والتى تعنى أن تمتد التنمية لتشمل كل شبر فى مصر ولا تقتصر على المدن الكبرى فقط.. وأعترف أننى من جيل ظل يسمع عن «تنمية الصعيد» ولا يراها.. حتى قامت ثورة يناير ثم ثورة يونيو فتحولت «عدالة التنمية» إلى هدف ثابت تتخذ خطوات كبيرة على الأرض لتحقيقه، كما رأينا فى المنيا بالأمس وفى سوهاج الجديدة قبل أسابيع ليست كثيرة.. والحقيقة أن الصعيد كان خطيئة كبيرة توارثتها النظم.. فقبل يوليو كان موطنًا للفقر والجهل والجريمة وكان قاطع الطريق الشهير بـ«الخط» هو رمز الصعيد فى الأذهان.. وبعد يوليو وقعت الثورة فى خطأ كبير، حيث ظنت أن فتح أبواب القاهرة لأهل الصعيد والريف هو ترضية كافية فكان ما نعرفه جميعًا من ترييف المدن وانهيار مرافقها وظهور العشوائيات كأحياء أسسها المهاجرون من الصعيد والريف فى المقام الأول.. إلى أن قامت ثورة يونيو وبدأت معالجة المشاكل من المنبع، سواء عبر إزالة العشوائيات فى القاهرة والمدن الكبرى أو عبر تنمية الصعيد وبناء المدن الجديدة فيه.
أما الرسالة الثانية التى ترسلها الزيارة فهى سياسية أيضًا وهى أن الرئيس رئيس لكل المصريين لا لأهل العاصمة فقط.. وأن الدولة موجودة على كل شبر من أرض مصر وأنها تذهب الآن لقرى ونجوع لم يدخلها مسئول منذ عهد الفراعنة وبقيت متروكة على حالها قرونًا طويلة بما فى ذلك من ظلم وتخلف يترك الفرصة للإرهابيين كى يزرعوا أفكارهم فى عقول الناس.. على مستوى الشكل كانت هناك رسالة ثالثة تكشف عن مرونة وتجاوب مع المستجدات وسد للذرائع.. فالمشروعات التنموية كلها نفذتها جهات مدنية والمسئولون الذين أعطوا «التمام» بالمشروعات موظفون مدنيون فى وزارات الدولة المختلفة وهذا رد كاف على شائعات استيلاء القوات المسلحة على كل المشروعات وضبط لمقادير الطبخة التنموية المصرية يتصف بالوعى والمرونة والانتباه لمحاولات التشويه.
فى هذا الإطار كانت هناك رسالة رابعة حول الاهتمام بالتعليم وبالعناصر الموهوبة، حيث تمثل مدارس المتفوقين الستة عشرة على مستوى الجمهورية مفرخة مناسبة للعناصر الواعدة التى تحتاج إلى رعاية الدولة فيما بعد مرحلة المدرسة والجامعة، سواءً عبر توفير فرص الدراسة فى الخارج أو عبر تمكينها من خدمة الدولة المصرية عبر وظائف مميزة تراعى نبوغ أصحابها وتميزهم وتحميهم من مكائد البيروقراطية المصرية المتخصصة فى قتل المواهب وتطفيشها من البلد كلها.. ولا شك أن زيارة الرئيس مدرسة المتفوقين فى المنيا رسالة رعاية كبيرة تشى بوعيه بأهمية التعليم وتزيل العقبات من أمام هذه المدارس كى تلعب دورها.. حيث يجب أن ندرك جميعًا أن الدولة المصرية الحديثة قامت على أكتاف العناصر الواعدة التى تم إرسالها للتعليم فى الخارج فى عهد محمد على باشا وكلهم من أبناء الفلاحين الفقراء والأذكياء الذين قامت على أكتافهم نهضة مصر ومن أشهرهم رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وعلى باشا إبراهيم ومئات غيرهم من أبناء المصريين العاديين.. أما الرسالة الخامسة والأهم والتى تمس الملايين من المصريين فهى رسالة رفع الأجور والمعاشات وتخفيض الضرائب وزيادة إجراءات الحماية الاجتماعية والتى تقول إن الدولة لم ولن تتخلى عن المواطن بقدر الإمكان وأنها تعى المصاعب التى يتحملها المواطن المصرى وتمتن له وتشعر به وأنها لن تتخلى عنه، سواء عبر محاولات ضبط الأسواق وحد غلو التجار وتوفير السلع النادرة والبيع بسعر التكلفة والاستمرار فى دعم الخبز والسولار رغم ارتفاع التكلفة.. وأضاف الرئيس بالأمس إلى ذلك زيادات كبيرة ومقدرة فى الرواتب والمعاشات بمختلف أنواعها.. وهى رسالة معنوية أكثر منها مادية.. فالزيادة قد تعقبها إجراءات أخرى حتى تمر الأزمة.. والدولة لم تقل للمواطن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.. ولكنها تتحمل معه العبء كتفًا بكتف وتشعر به وتتضامن معه.. وهذه كلها رسائل رائعة يقدرها المصريون الذين يفهمون معنى «القلب على القلب رحمة» بأكثر مما يفهمه أو يقدره شعب آخر.. أما الرسالة الأخيرة فهى رسالة أمل.. فالمخاض الصعب الذى يمر به العالم سينتهى بعد عام أو اثنين أو حتى ثلاثة.. لكنه، وفق التقديرات، سينتج عنه نظام عالمى أفضل أو أقل عيوبًا.. وقتها سيجنى الصابرون جزاء ما صبروا.. وحين تنتهى الأزمة فإن الشمس ستشرق على مصر لتكتشف أن هناك زيادات مهولة فى أصول الدولة المصرية من الطرق والكبارى والمدن والمصانع والشركات والمنشآت السياحية.. وأنها جاهزة للمشاركة فى الإنتاج العالمى وأن الأزمة لم تعطل سير العمل فى أى منها رغم الصعوبات.. وهذا كله نذير أمل كبير يستحق أن نتشبث به ونتفاءل بأن القادم أفضل بإذن الله.