تخفيف ديون الدول النامية واجب أخلاقى
فى الثمانينيات كان هناك إعلان توعية شهير يذاع فى التليفزيون يبدأ بصوت طفل يقول «انظر حولك».. وأظن أننا من وقت لآخر نحتاج لأن ننظر حولنا لنرى ما يجرى فى العالم وانعكاسه علينا بدلًا من ذلك الغرق فى تفاصيل التفاصيل المحلية و«التريندات» التى تأتى من الفراغ وتذهب إلى الفراغ مرة أخرى دون أن ندرى لماذا جاءت وأين ذهبت.. ومن أهم ما حدث فى العالم مؤخرًا- من وجهة نظرى- هو مطالبة البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة الدول الغنية بتخفيف ديون الدول الفقيرة بشكل عاجل.. وبداية فإن قروض الدول تختلف تمامًا عن قروض الأفراد.. وهى نقطة محل لبس فى ذهن المواطن المصرى.. فتراثنا الثقافى يكره الدين الشخصى ويحذر منه وأحيانًا يحرمه.. لأن هذا التراث يرى أن الدين الشخصى عادة ما يستخدم للرفاهية.. وأنه يرتبط بقصص استغلال من هنا وإسراف من هناك وربا وفوائد ومرابين أجانب.. إلى آخر ما يزخر به الخيال الشعبى الذى ليس شرطًا أن يكون صحيحًا أو موضوعيًا أو ينطوى على حقائق مجردة.. ديون الدول تختلف من حيث كونها تمويلًا للتنمية فى بعض الأحيان.. أو أداة اقتصادية تستخدمها الدول الغنية نفسها فى أحيان أخرى.. وعلى سبيل المثال فقد أراد الرئيس جمال عبدالناصر أن يحصل على قرض كبير لبناء السد العالى.. وعندما رفض البنك الدولى القرض أمم عبدالناصر القناة ردًا على الرفض.. والمعنى أن القرض نفسه ليس شيئًا سيئًا ما دام سيستخدم فى التنمية.. يبدو هذا محاولة موضوعية لتعريف قروض الدول بعيدًا عن دعايات لجان الإرهاب والفساد التى تتعامل مع الشأن العام على طريقة «خالتى بمبة» بطلة البرنامج القديم «عيلة مرزوق».. مؤخرًا قالت الأمم المتحدة إن الأغنياء يجب أن يتنازلوا عن ديونهم لأربع وخمسين دولة تضم نصف سكان العالم.. وقالت إنه بدون اتخاذ هذا الإجراء سيرتفع معدل الفقر ولن تحدث استثمارات فى مجال التكيف المناخى والتى هى فى مصلحة الجميع.. الوكالة الإنمائية للأمم المتحدة وضعت مطالبها فى ورقة عمل أصدرتها مؤخرًا وحذرت فيها من التباطؤ فى إلغاء ديون نصف سكان العالم المرهقين من آثار الأزمة العالمية.. حيث سيقع الضرر على الجميع.. الورقة قالت إن إلغاء الديون هو «حبة دواء صغيرة» تبتلعها الدول الغنية.. والمعنى أنها لن تشعر بأى أثر جانبى لإلغاء الديون.. وقالت ورقة الأمم المتحدة إنه من بين الأربع وخمسين دولة محملة بالديون هناك ثمانٍ وعشرون دولة أكثر تأثرًا بالتغيرات المناخية التى تسببت فيها الدول الغنية.. وللأسف الشديد فإن هذه الدول التى تضم نصف سكان العالم لا تتحكم سوى فى ثلاثة فى المئة من الاقتصاد العالمى... ورقة الأمم المتحدة حملت إشارات إيجابية بأنه من المحتمل أن تكون هناك «صفقة» لإعادة هيكلة ديون الدول الأربع والخمسين على مستوى العالم فى ظل ما أسمته «تغيرات أوضاع الأسواق حول العالم» وتقول الورقة أيضًا «إن الدول الغنية لديها الموارد اللازمة لإنهاء أزمة الديون.. لأن التدهور السريع يرجع جزئيًا إلى سياستها المحلية».. الورقة صدرت قبل أيام قليلة من اجتماع وزراء مالية دول العشرين الأكثر ثراءً فى العالم والتى تتلوها الاجتماعات السنوية للبنك الدولى وصندوق النقد الدولى، ويقول برنامج الأمم المتحدة إن الظروف مهيأة للدائنين والمدينين لبدء محادثات إعادة هيكلة الديون فى إطار مجموعة العشرين.. خاصة أن عشرين دولة نامية اضطرت لرفع سعر الفائدة على السندات التى تصدرها لسداد أعباء الأزمة العالمية.. حيث ترى الأمم المتحدة أن هيكلة الديون ليست سوى الخطوة الأولى التى يجب أن تسبق إعادة إنعاش الدول النامية وتوفير موارد كافية لها لتحقيق تقدم فى عملية التنمية المستدامة الضرورية جدًا لهذه الدول.. انتهى مضمون ورقة الأمم المتحدة التى تحمل مطلبًا منطقيًا وأخلاقيًا للدول الغنية بتحمل مسئوليتها عن الأزمة التى كانت سببًا فيها.. وما لم يقله بيان الأمم المتحدة إن الدول النامية ليست هى التى خلقت فيروس كوفيد ١٩ فى المعامل.. وليست هى المسئولة عن تسربه.. كما أنها ليست مسئولة عن حرب عض الأصابع فى أوكرانيا، ولا هى التى تطيل أمد الحرب بالعناد وإمدادات الأسلحة وتسخين الأطراف على بعضها البعض.. ومع ذلك فهى تدفع الثمن غاليًا للأسف الشديد.. لذلك يقال إن الحياة ليست عادلة.. ويبدو أنها ستظل كذلك.