«الرجل الذى أكله الورق».. شكسبير بمعالجة ٢٠٢٣
امتلأ مسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون عن آخره لمشاهدة عرض «الرجل الذى أكله الورق» لفرقة جروتسك، الذى عُرض على مدار ٧ أيام بنجاح كبير، ومن المنتظر أن يُعاد مرة أخرى خلال الفترة المقبلة، العرض تأليف أوجستين كوزانى، إعداد وإخراج محمد الحضرى، مستلهمًا أحداث مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير، فى حبكته الأساسية لكنه يفارقها فى بناء الشخصيات والدلالات المصاحبة للعرض المسرحى.
الشخصية الرئيسية فى نص شكسبير هى شايلوك اليهودى المرابى الذى يقرض الناس أموالًا ويستردها مضاعفة، والمقترض منه هو تاجر البندقية، هو تاجر ميسور الحال لكنه يزدرى شايلوك بسبب سلوكه رغم اضطراره للاقتراض منه، مما يجعل لدى شايلوك دافع للانتقام من التاجر، بينما فى رجل من الورق تكون العلاقة بين شايلوك المرابى، وبيلوبر الموظف، علاقة استغلال تصير وفق نظام طبقى عنيف.
فى مستهل العرض المسرحى «الرجل الذى أكله الورق» نرى منصة القاضى وقد صنعت من أكوام من الملابس والأقمشة المهترئة، والكناسين يزيحون أكوامًا من التراب ليهيئوا قاعة المحكمة ويتساءلوا: لماذا لا تمسك إلهة العدالة العمياء بمقشة بدلًا من السيف؟، ويجهزوا القاعة لاستقبال المؤدين والجمهور حيث ستصير المحاكمة ذاتها عرضًا مسرحيًا يؤدى أدواره القاضى والمحامون والمحلفون والمدعى والمدعى عليه والجمهور.. والعرض الهزلى يتطلع الجمهور لمشاهدته ويحقق أعلى نسب المشاهدة كلما كانت الجريمة قاسية ودموية، حيث يقول الأب لطفلته فى مستهل المسرحية: «هذا أفضل موقع يمكننا مشاهدة كل شىء منه»، وحين تسأله الطفلة: «هل القضية مسلية يا أبى؟» يجيبها: «قضية غير مشوقة.. إنها مجرد قضية رجل مدين امتنع عن تسديد المديونية». تدور أحداث المسرحية داخل قاعة المحكمة وعبرها نتعرف على المتهم «إلياس بيلوبر» كاتب الحسابات الذى تجبره صعوبة الحياة ومتطلباتها أن يعمل ليل نهار بلا انقطاع حتى يفى بالتزاماته وهو يعيش مع زوجته المتطلبة، التى لا تلبث أن تتهمه طوال الوقت بالتقصير والفشل وانعدام المهارة، بينما «إلياس بيلوبر» موظف شأنه شأن العديد من الموظفين يستيقظ مبكرًا للحاق بحافلة تصل به إلى مكان عمله البعيد بمسافة كبيرة عن منزله، يوبخه رب العمل إذا تأخر بينما يستنفد طاقته كلية كآلة، ويحمله الكثير من الأعباء حتى تتلف أعصاب يديه وظهره من كثرة الانحناء والكتابة وفقًا لتشخيص الطبيب فيسرحونه من عمله ويذهب للعمل بمصنع متحملًا عبئًا فوق طاقته الجسدية بعد مرضه لذا يكون راتبه زهيدًا، فيلجأ للاقتراض من شايلوك المرابى الذى يقرضه بفائدة كبيرة وكلما عجز عن سداد، ولو جزأ من القسط، يرفع قيمة المبلغ والفائدة حتى يلزمه فى المرة الأخيرة بأن يتعهد باقتطاع رطل من لحمه إذا عجز عن سداد الدين. يحاول محامى المدعى، بأداء بهلوانى، إقناع المحكمة باقتطاع رطل من لحم المسكين بيلوبر، بينما يحاول الدفاع زحزحة القاضى والمحلفين بتبرئة ساحة المتهم بإظهار الجانب الإنسانى الذى صار منكرًا ومستبعدًا فى خطابهم، وحين يتبين له أن هناك تحالفًا غير شريف بين القاضى والشهود، ومنهم طبيب المتهم والمحلفون، يلجأ المحامى للحيلة «التى تجاريهم فى الورق ضد الورق، النص ضد النص، ظاهر القانون ضد ظاهر القانون» فيستخدم الحجة التى استخدمها محامى تاجر البندقية ضد شايلوك ونجحت فى إقناعه بالتنازل، حين قال إن موكله تعهد باقتطاع رطل من لحمه إذا لم يسدد الدين لشايلوك، لكن عليهم أن يقتطعوا هذا الرطل دون إراقة نقطة دم واحدة وإلا التزم شايلوك وفقًا للقانون بالتنازل عن ثلث ممتلكاته لبيلوبر، لكنه يفاجأ بفساد تلك الحجة حين يثبت الطبيب أن جسد بيلوبر خالٍ من الدم.
الصورة غير الواقعية التى شكلها المخرج عبر سينوغرافيا العرض، «منصة القاضى، شكل القفص، الملابس والمكياج والأقنعة»، جميعها كانت تدفعنا لئلا نحصر العرض فى تفسير واقعى محدود، فالمحكمة ليست هى المحكمة ولا القاضى هو القاضى ولكنه عالمنا القاسى المفتقد للعدالة، عالمنا الذى يحوّلنا إلى صور مستنسخة فى الشكل والسلوك والأدوار، العالم الذى يطحن الطبقات الفقيرة والمتوسطة لصالح فساد أصحاب رءوس الأموال والمصالح والتجار والمرابين، يتغذى على لحمهم ودمائهم أرصدة البنوك التى تتضخم بينما رصيدهم خالٍ حتى من الستر، العالم الذى تسطح حتى صارت الحقوق مرهونة بالورق ومن يجيد «تستيف» الورق هو الفائز فى اللعبة، العالم الذى تشكله الصور وتتابعها دون أن نميز مصدرها وزاويتها ومدى صدقها، العالم الذى لا شىء فيه مهدى، كله مقرض كله دين، علينا سداده ونظل نسدد ونسدد ليس فقط من أموالنا بل ومن أرواحنا ومن لحمنا الحى إذا استطعنا، حيث تنتهى المسرحية بصراخ المحامى فى وجه القاضى وقد أصر أن يخبره بسبب خلو جسم بيلوبر من الدماء. المحامى: «ولكنى أنا أقول لكم السبب الذى جعل الدم يهرب من جسم بيلوبر، لقد سرقوه، عصروه، سرقه رئيسه بالعمل صاحب التراخى وكذلك الزى الأسود وطبيب الخط التاجى، وتم القضاء عليه هنا بين المحامين والمحلفين، دم الإنسان مقدس ليس من حق أى صاحب عمل ولا محلف ولا مقرض.. إنهم مصاصو دماء يسيرون طلقاء، انتبهوا أيها السادة انتبهوا البلد ملىء بمصاصى الدماء لا بد من القضاء عليهم، إنهم يمشون طلقاء إنهم مصاصو دماء إنهم مصاصو دماء».