«على عتبة المقام».. جولة فى عالم حراس مصر الصالحين
قرأت كتاب "على عتبة المقام" للكاتبة الصحفية "سهير عبدالحميد"، الصادر عن دار الرواق، فى طبعته الأولى بعدد صفحات ٣٤٦ صفحة.
الكتاب عبارة عن دراسة سريعة لتاريخ الصوفية الكبير والعميق، حاولت فيه الكاتبة توصيل فكرة للقارئ، أن الصوفية ليست مرتبطة بدين، لكنها أصل متجذر فى فكر المصريين الجمعى. فالكتاب هنا لا يتحدث عن أصل الصوفية كعبادة، ولكنه يهتم أكثر بالتصوف الشعبى، واستعراض مراحل تكوينه وتغلغله فى النسيج المصرى.
"المصرى متدين بطبعه"، قد تكون عبارة ساخرة الآن ولكنها حقيقة، هناك شىء فى نفس المصرى يدعوه للانجذاب إلى الروحانيات عمومًا بغض النظر عن الديانة، فمنذ عبادة المصرى لـ"رع"، وتبجيله وتقديم القرابين، والشعائر الاحتفالية الدينية، والمصرى مستمر فى نفس طقوسه الشكلية مع اختلافات بسيطة بتغير المعبود على مر العصور.
ففى الفصل الأول من الكتاب، عبرت الكاتبة عن هذه الفكرة باتخاذها أخناتون وتوحيده وشعائره وطريقة عبادته وترانيمه كمثال على العلاقة الروحية بين المصرى وإلهه، تلك الترانيم وطريقة العبادة ستجدها متشابهة فى طريقة عبادة مسلمى ومسيحيى مصر.
تقديس المصرى لـ"إيزيس" متشابه مع طريقة تقديس "مريم العذراء" و"السيدة زينب". حب المصريين للأولياء والقديسين، لحد التصديق العقلى التام لجميع معجزاتهم، متشابه مع ما كان يفعله المصرى القديم مع كهنته ومعبوداته والأيقونات والوشوم التى تشابهت وتواجدت، فى عبادة المصرى القديم، وتجلت أكثر وأصبحت من أبرز مظاهر الفن القبطى فى المسيحية، وظهرت أيضًا عند المصرى المسلم فى علاقته مع شيوخه وأوليائه.
تلك العلاقة الروحية، متوارثة من قديم الأزل فى جينات المصرى، وهذا ما نطلق عليه "التصوف الشعبى" البعيد عن معنى التصوف الحقيقى.
فى فصول الكتاب رحلة ممتعة فى أروقة تاريخ الرهبنة فى تاريخ المسيحية منذ بداية تكوين فكرتها فى عصر الاضطهاد الرومانى، والتى كانت اختراعًا مصريـًا صعيديًا فى الأصل، وأيضًا هو عبارة عن موروث شعبى للمصرى المحب للجو الروحانى النقى، ومنه انتشرت فى جميع أنحاء العالم، ليصبح القديس القبطى الصعيدى "الأنبا أنطونيوس" أبوالرهبنة والرهبان فى العالم.
الحقيقة أن الكتاب ممتلئ بالمعلومات المهمة الشائقة المبسطة، عن حكايات القديسين والقديسات أصحاب الكرامات والمعجزات والشفاعة. ويوضح الكتاب التشابه الكبير بين المسيحية وعبادة القدماء من خلال صور "المسيح ومريم العذراء"، المستمدة من تماثيل "حورس وإيزيس".
ينتقل الكتاب لإثبات أن تلك العلاقة الروحية لدى المصرى، انتقلت معه إلى الإسلام أيضًا. فى الفصل الخامس نعرف كيف عرفت مصر التصوف. كانت البداية بدخول آل البيت مصر والحياة والوفاة بها. وهنا تغلب على المصرى طبعه القديم فى الجو الروحانى، فصنع لهم مقامات، واتخذهم أولياء كدليل محبة شديدة وتقديس.
أما عن معنى كلمة تصوف، فمكتسبة من رقعة الصوف التى يرتديها الزهاد، وقد تكون مكتسبة من كلمة سوفيا اليونانية بمعنى الحكمة، والتصوف هو البعد الروحانى للإسلام، من حيث صفاء القلوب، والتحرر من الشهوات، وترك كل شىء ما سوى الله. ومن خلال هذا التعريف نرى التقارب ما بين الرهبنة والتصوف.
"ذو النون المصرى" بوابة مصر إلى عالم التصوف، أول من وضع القواعد والإطار العلمى للتصوف، أول من حاول ترجمة وفك رموز الهيروغليفية على جدران أخميم، وأول من دمج ما بين الكيمياء والصوفية. مخترع الصوفية الذى تتلمذ على يد امرأة وهى "فاطمة النيسابورية". ومن بعده أتى كثير ممن حملوا مبادئ وأفكار الصوفية مثل "أبوالحسن الحمال" صاحب الكرامات ومعجزته مع "أحمد بن طولون"، الذى أطعمه لأسد جائع، فرفض الأسد أكل الولى، وأصبح تحت يديه كالقط.
ومن ثم تعددت الطرق الصوفية فى مصر، فكانت الفصول من السابع للتاسع، عبارة عن ملخص مبسط وشامل لكل طرق الصوفية، وأفكارهم، وأوليائهم، وطريقة مريديهم، فى جميع المحافظات، من القاهرة وطنطا والإسكندرية والصعيد.
فى الفصل العاشر ترصد الكاتبة زمن تحول الصوفية فى مصر وخروجها من طريق التعبد إلى طريق تنابلة السلطان والدراويش. كانت البداية عند "صلاح الدين الأيوبى" الذى أراد مواجهة بقايا المد الشيعى بالتصوف السنى. حيث ظهرت الخانقاوات، التى شيدت لإيواء المتصوفة ورجال العلم، وتكفل الدولة الكفالة التامة بهم من مأكل ومشرب وملبس، وبالتالى ظهرت مجموعة ممن تظاهروا بالتصوف ليعيشوا تنابلة السلطان فى الخانقاوات، أكل ومرعى بلا صنعة.
ثم انتشرت الخانقاوات فى العصر المملوكى، ومنها ظهرت الزوايا، التى كان هدفها الأساسى بيوت علم وقرآن، فتحولت إلى بيوت دروشة ودجل وخرافات. هنا تطورت دولة الأولياء والمشايخ الذين صنعوا عالمًا من الأوهام والأكاذيب والكرامات والخزعبلات التى وقرت فى الصدور وأقرتها كتب السير والمناقب، وظهر جيل من الدراويش الدجالين من العصر المملوكى، وظل أثرهم حتى الآن. ثم اختلف شكل الخانقاه فى العصر العثمانى فأصبحت تكية. ومن بعد التكية زاد تنابلة السلطان والدجل والدروشة إلى حد مريع.
فكلما تجبرت السلطة يصبح تغييب الوعى ضرورة، والخرافة وسيلة لضمان الاستقرار.
فى الفصل الحادى عشر تتحدث الكاتبة بإسهاب عن دراويش عصر المماليك والعثمانيين وصفاتهم الغريبة التى تشبه المجانين، وطرق تعاملهم الشاذة مع مريديهم. وتدعم كلامها بكثير من المصادر عن كبار مؤرخى المرحلة وعن أيضًا المستشرقين. فانتشرت الرذيلة والفجور واستباحة الحرمات فى الساحات باسم التدين. والمخزى أن سلاطين المماليك أنفسهم اتبعوا هذا الطريق من الدروشة وكانوا أولياء لأولئك الدراويش، وبالتالى إن كان رب البيت بالدف ضاربًا فشيمة أهل البيت الرقص. ما حدث هنا ليس تحولًا فقط بل هو انسلاخ عن الصوفية، وهى منها براء.
وحتى الفصل السادس عشر، تستعرض الكاتبة الكثير جدًا من قصص أولئك الدراويش وكراماتهم المنسوبة لهم، وكيفية تصديق المريدين لهم حد الروح والدم والعرض. حتى تصل فى الفصل السابع عشر إلى الشيخ "الشعرانى" أكبر مؤرخى الصوفية فى هذا الوقت، وتاريخه وانتمائه المنهجى، وما دس على كتبه من كلام يخالف الشريعة، هذا على حد قولها الشخصى.
انتقل الكتاب وأخذنا بجولة فى قرى ونجوع مصر وأزقتها العتيقة، لتأتى بأغرب قصص المشايخ التى تعد النساء أهم زبائنهن بحثًا عن علاج للعقم أو لجلب الحبيب أو لفك العنوسة، وكأن الوهم أصبح هو بوصلة الحائرين المتعبين. فأفردت الكاتبة باقى فصول كتابها لكثير من كرامات الأولياء والقديسين فى الإسلام والمسيحية، فاتخذت حكايات جبل المقطم كمثال، لنظرة الناس له على أنه جبل مقدس. فذكرت حكاية سمعان الخراز، وحكاية عمرو بن العاص، ومحبة الصحابة والتابعين لهذا الجبل كقبور لهم باعتباره أرضًا من الجنة.
وجاء ذكر الموالد، والاحتفالات الشعبية، التى فى ظاهرها دينى، وفى باطنها مكان لهو وعربدة وتغييب عقول. فكانت الموالد وسيلة لإلهاء الشعب الفقير المعدم، بوصفها المتعة الوحيدة الباقية له. ثم ختامًا عرضت الكاتبة تقريرًا سريعًا عن الطرق الصوفية المندثرة، والطرق الصوفية المجهولة. الكتاب مهم جدًا فى إزالة الجهل والغشاوة، التى أصابت الناس لقرون عديدة، فالمصرى متدين بطبعه ولكنه تدين ظاهرى، وقد يخالف أصل عقيدته الحقيقية.