«المجتمعات الإلكترونية» تعزز من قوة اليمين المتطرف «٢»
الدراسة التى نتناولها تحت عنوان: دور المجتمعات الإلكترونية فى انتشار التطرف اليمينى، تكتسب أهميتها كونها تفتش فى مسببات تنامى ظاهرة «اليمين المتطرف» فى الدول الغربية، وربما خلال ما تناولناه فى الجزء السابق اتضح أننا أمام جذور لتيار لم يظهر على السطح فجأة. إنما كان هناك العديد من المقدمات التى سارت على مهل، إنما بثبات من يكسب أتباعًا جددًا طوال الوقت، لا سيما وهو يوظف الظروف المحيطة لصالح الدعاية لأفكاره المتطرفة، مما جعله مواكبًا ومخترقًا لمعظم الأحداث الفارقة فى عمر الدول، التى شهدت هذا الصعود، بل وعبور حدود الدول والقارات حتى بات تيار اليمين مما لا يمكن تجاهله، إنما يستوجب دراسة كل جوانب وأطروحات التطرف الصادرة عنه وتشكل هاجسًا يقلق الكثيرين، بما حققه ويحققه يوميًا على صعيد تلك المجتمعات التى نما وترعرع فيها.
الدراسة تحيل أمر الانتشار والتغول لظاهرة «المجتمعات الإلكترونية»، إلى الفترة التى شهد فيها العالم جائحة كورونا وما صحبها من تبعات الإغلاق وحظر الأنشطة العامة. لكن الرصد الواقعى للفضاء الإلكترونى أشار كما أسلفنا فى الجزء الأول إلى أن بداية بزوغ «المجتمعات الإلكترونية»، وبدء تبنيها للنهج المتطرف الذى حرص على نشر ما سمى بـ«المحتوى البغيض» على شبكة الإنترنت ظهر منذ عامى ٢٠١٥ و٢٠١٦. وكان هناك من الوقائع ما يعد خطوات على ذات الطريق، ففى عامى ٢٠١٨ و٢٠١٩ اللذين شهدا بدورهما نقلة نوعية فى تمدد ظاهرة الاستخدام الإلكترونى فى نشر فكر ونشاط الإرهاب اليمينى المتطرف، تطور هذا الاستخدام ليمثل حالة منهجية بغية تحقيق هذا التيار لأهدافه الاستراتيجية. فى ٢٠١٨ كانت المخاوف بادية الاتساع فى الولايات المتحدة بالأخص، واستمرت المخاوف بشأن عواقب النشاط اليمينى المتطرف عبر الإنترنت فى الولايات المتحدة نتيجة للهجمات التى بدا أن لها مكونات مهمة على الإنترنت، سواء الناجحة أو الفاشلة، وكان أشهرها ذلك الذعر من القنابل التى قد ترسل عبر خدمات البريد الأمريكية. جدير بالذكر أن هذا العام شهد مقتل اثنين أمريكيين من أصل إفريقى بالرصاص فى سوبر ماركت بولاية «كنتاكى»، فضلًا عن الهجوم على «كنيس شجرة الحياة» فى بيستبرج بولاية «بنسيلفانيا»، الذى أسقط ١١ من القتلى فى حين أفصح منفذه «روبرت باورز» عن تخطيطه ورغبته فى قتل اليهود على خلفية عقائدية عنصرية ترى أن «الإبادة» هى الحل من وجهة نظره ووفق ما يؤمن به تياره المتطرف!
أما عام ٢٠١٩ فقد شهد قفزة فى عدد ونوعية العمليات اليمينية المتطرفة التى وقعت فى أماكن عديدة عكست حجم الخطورة الفعلية للظاهرة وتناميها. أبرزها بالطبع الهجوم الإرهابى الشهير على مسجدين فى «كرايستشيرش» بنيوزيلندا، الذى وقع فى مارس من هذا العام وأسقط «٥١ قتيلًا» وعشرات المصابين. انطوى الهجوم على أكثر من توظيف لخصائص وميزات مهمة توفرها شبكة الإنترنت لصالح العملية، بما فى ذلك «توزيع بيان» عنصرى عبر الإنترنت مخطط له مسبقًا، كما جرى بث مباشر لفيديو يصور العملية الإرهابية على موقع «فيسبوك» تابعه الملايين. فى أبريل وأغسطس من نفس العام وقع فى الولايات المتحدة هجوم على «كنيس بواى» بولاية «كاليفورنيا»، وإطلاق للنيران على «وول مارت» فى تكساس وأسفر عن مقتل «٢٠ شخصًا» وإصابة ٢٦ آخرين على الأقل، وظهر من اعترافات المنفذ أنه يريد إطلاق النار على أكبر عدد من المكسيكيين. وتمحورت التحقيقات عن استخدام خصائص الإنترنت عبر كتابات المنفذين والمروجين لتلك الحوادث، دور وسائل التواصل الاجتماعى، لا سيما وسائل الإعلام البديلة، التى ظلت محورية فى إنشاء «المجتمعات الإلكترونية» عبر الإنترنت وتوسيع نطاقها، حيث يمكن تعريف وسائل الإعلام البديلة بأنها المصادر والمنصات التى تتحدى وسائل الإعلام التقليدية، التى تواجه تصورًا بأنها وسائل تقليدية متحيزة، تخفى المعلومات الحقيقية أو تشوهها.
هذه المجتمعات تقدم نفسها كخيار «إعلامى بديل»، من أجل خدمة الفئات التى تشعر بالتهميش فى المشهد الاجتماعى والسياسى، الأمر الذى يمكنه بسبب طبيعة هذه الدينامية أن يحول وسائل الإعلام البديلة إلى أداة تصحيح متخيلة، فى مواجهة وسائل الإعلام التقليدية التى غالبًا ما تصبح متحيزة فى طبيعتها من وجهة نظر تلك الفئات. كما يؤدى الانتماء إلى مجموعات تدعم «منظورًا بديلًا» إلى زيادة التحيزات المعرفية المتطرفة، حيث يبحث المستخدمون طوال الوقت عن المعلومات التى تؤكد معتقداتهم أو أفكارهم السابقة، ويفسرونها ويتذكرونها وفق تيارهم الناظم لهذا التعصب المغلق.
الدراسة فى هذا الصدد أفادت بأن «المجتمعات الإلكترونية» عبر الإنترنت، تصبح تلقائيًا داعمة بشكل متزايد لوجهات نظر بعضها البعض. هذا أمر مهم فى تشكيل المجتمعات المتطرفة عبر الإنترنت وتوسيعها؛ لأن ديناميتها عبر الإنترنت تعتمد على إنشاء ما يسمى بـ«غرف صدى» للمحتوى المتطرف، حيث يجد الأفراد باستمرار مَن يؤكد آراءهم من خلال اتفاق الآخرين معهم، كما أن تكرار مثل هذه الآراء يسهم فى تعزيزها دون أى تعرض لأفكار أو آراء بديلة. وتظل هذه «المجتمعات الإلكترونية» تستخدم هذه البدائل وديناميتها لإنتاج المعلومات المضللة ونشرها، مما يتسبب فى تشويه منظور الأفراد وتقييد قدراتهم فى الانفتاح على وجهات النظر، المتعارضة مع هذا المحتوى المفخخ بالتطرف والعنصرية.
لهذا جاء حظر تلك الجماعات والجهات الفاعلة اليمينية المتطرفة البارزة، من المنصات الرئيسية، إلى انخفاض ملموس فى عدد مستخدميها، وانتقل النشاط وفعالية الدعاية إلى المنصات البديلة عبر الإنترنت مثل «تلجرام»، ما عزز خروج أعضاء الجماعات المتطرفة من المنصات الرئيسية، وأسهم فى انتقال الشبكة بشكل عام إلى مساحات بديلة، حيث يصعب اكتشاف المحتوى المتطرف وحذفه.
هذا أدى إلى أن تصبح تلك المنصات وسائل التواصل الاجتماعى البديلة، وتمثل بيئة متنامية لمجموعة من الأيديولوجيات البغيضة المعبأة بخطاب الكراهية، استنادًا إلى نشر حملات التضليل المعرفى والتخفى طوال الوقت تحت مظلة «نظرية المؤامرة». ولا تختلف بداخلها كثيرًا كراهية الإسلام والمسلمين وتحميلهم كل أنواع الشرور، عن معاداة السامية الموجهة لليهود بشكل واسع داخل تلك «المجتمعات الإلكترونية» التى تعيد إنتاج خطاب قديم، يحملهم إخفاقات وتعثر بلدانهم دون التطرق مثلًا لما تقوم به إسرائيل بحق الفلسطينيين، فى انتقائية مضللة تدل على قدر الانحرافات الفكرية المختلة.